قول «نيتشه»: كيف نجعل الكل يقف ضدنا؟ لو أنّ أحداً تجرّأ في الوقت الحاضر، وقال: كل من ليس معي فهو ضدي، لوجد في الحين أنّ كل الناس ضده.
وهذا يذكرني بموقف حصل أمامي من بعض الزميلات، حيث طرحت إحداهن أمراً، وقالت رأيها، ثم سألت عن رأي البقية، فكان الأغلب مخالفًا لرأيها، مما جعلها تنزعج بشدة ولا تقبل الرأي، وتخرج دون أن تكمل الحديث.
فتأملت أنّ من حكمة الله - تعالى - أن خلق الناس مختلفين في العلم والعقل والدين والذكاء والأشكال والألوان، وأنهم ليسوا على طريق واحد..
وكما يقال إنّ اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، أي إذا حصل حوار، ولم يحصل الاتفاق فلابد أن يبقى الود، ولا تتأثر النفوس، وتبقى العلاقات في مستواها العالي دون أن تجرح أو تشوه، وهذا لا يتم إلا بالالتزام بآداب الحوار، وهي تتلخص في قواعد مهمة، أولها إخلاص النية، فلا يكون الحوار لأجلك أو لأجل أحد، بل من أجل الله والوصول للحق، كذلك الاتفاق، فمهما اختلف المتحاورون لابد من نقاط معينة يحصل بها اتفاق، كذلك المرجعية أي استخدام الحجة كالعقل أو الشرع ونحوه، أيضاً احترام الآخر والابتعاد عن السخرية والاستهزاء والابتعاد عن سوء الظن، وأخيراً عدم مجادلة الجاهلين أو الحمقى، فلا فائدة من حوارهم.
ومن علامات الجدل رفع الأصوات، وتكرار ذات الحجج كل مرة، ورفض البديهيات المعروفة في الشرع والعقل والحياة فإن ظهرت إحدى هذه العلامات أثناء الحوار فهو قد تحول لجدل، ولا فائدة من المتابعة فيه.
ومن الرائعين الذين يضرب بهم المثل في إتقان فن الحوار الإمام الشافعي (رحمه الله)، حكى عنه الإمام الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء» في ترجمته ليونس بن عبد الأعلى الصدفي تلميذ الشافعي قوله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة..
وقيل عنه : (لو ناظر الشافعي الشيطان لقطعه وجدله)، وقال محمد بن عبد الحكم: (ما رأيت الشافعي ناظر أحداً وإلا رحمته، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علّم الناس الحجج)، ومع ذلك فإنه كان لا يرفع صوته في المناظرة، وكان لا يريد إلا الحق، ولا يريد قهر الطرف الآخر، يقول رحمه الله: ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق أو يسدد، أو يعان ويكون له رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحداَ إلا ولم أبال بين الحق على لسانه أو لساني، وما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحداً على الغلبة وإنما على النصيحة)،
ويقول أيضاً مقولة رائعة يعبر فيها عن اختلاف الرأي «رأيي صواب، ويتحمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
ويقول ابن الرومي:
من لي بإنسان إذا خاصمته
وجهلت كان الحلم رد جوابه..
وإذا صبوت إلى المدام شربت من
أخلاقه وسكرت من آدابه..
وتراه يصغي للحديث بسمعه
وبقلبه، ولعله أدرى به