د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تداول الجميع الأحاديث المسهبة عن رؤية المملكة الجديدة التي تعد بإخراجنا من محيط الاعتماد شبه التام على النفط إلى برأمان الاقتصاد المعتمد على الاستثمار المدروس. وبلا شك فهذا التحول شكل طموحاً للشعب من أكثر من أربعين عاماً، نسمع به كثيراً عند هبوط أسعار النفط ثم نتناساه عند صعودها. ولم تنقص المملكة الأموال منذ إنشائها وفي أي مرحلة من مراحل تاريخها النفطي، بل إنه توفر لنا قبل عقد من الزمن، عندما تجاوز النفط مائة دولار، أموالاً طائلةً لم تتوفر لأي دولة أخرى، وهي تقريبا تعادل ما نطمح للحصول عليه من اكتتاب أرامكو، ولكن وللأسف تبخر الكثير من هذه الأموال ووجد طريقه إلى خارج البلاد، واضطررنا للترشيد لمجرد هبوط أسعار النفط لأعوام قليلة، وزاد مع ذلك إحساسنا باعتماد على النفط. وهناك اليوم مشاريع متعثرة وأخرى ليس لها أثر، ومدن صناعية لم تتحقق.
تاريخنا مع مداخيل النفط، حيث يتطلع لنا العالم المتقدم والمتخلف أيضاً على أننا من أغنى الدول، يوضح أن المال ليس كل شيء في التنمية بل إن هناك أمورا كثيرة أهم بكثير من ذلك منها: الإدارة السليمة، ونزاهة تنفيذ المشاريع، الاعتماد على القوى الذاتية، والقضاء على الفساد والتسلط على المال العام. والجميع يعلق الأمل على الرؤية الجديدة لتحقيق ذلك كما سبق وعلق آمالاً عراضًا على الرؤى التي سبقتها.
المملكة جغرافياً قارة صغيرة وتغطي أراضي شاسعة متنوعة المناخات والتضاريس. وهي اليوم في وضع مثالي من حيث عدد السكان المتوسط، ونسبة القوى الوطنية الشابة المتعلمة والمدربة، لكنها تعاني من الكثير من المعوقات الإدارية لتحقيق رؤية اقتصادية سليمة. ومن أهم هذه المعوقات استيراد القوى العاملة الأجنبية بلا ضوابط، وبلا حاجة أحياناً؛ واستيراد الشركات الأجنبية لتنفيذ المشاريع على المفتاح عبر وسطاء محليين بهدف الربح السريع مما تسبب في تنفيذ موزاييك من المشاريع بشركات عالمية متنوعة المشارب مما جعل رعاية المشاريع وصيانتها أشبه بالمعجزة. وهذا النمط من التنمية التي يستفيد منه فقط كفيل الشركة، وكفيل حصولها على العقود الحكومية الضخمة تسبب لنا الكثير من المشاكل، من أهمها: البطالة، تدني القدرة الوطنية على تنفيذ المشاريع دونما مساعدة خارجية، عجزنا عن الصيانة السليمة لمشاريعنا، تهميش الجامعات ومراكز البحوث لعدم الحاجة لها في الواقع التنموي. كما أن هذا النمط من التنمية تسبب في أشكال أكبر من ذلك وهو التسرع في تنفيذ المشاريع لأسباب غير اقتصادية بل لمجرد الانتفاع، وبعضها مشاريع لم تر النور. ويكفي أن نعرف أن إحدى كبريات شركات الإنشاءات لدينا احتكرت مشاريع في مرحلة ما بما يزيد على 400 مليار ريال في عامين، وهي اليوم، لمجرد تراجع الدخل الحكومي لفترة قصيرة جداً تعلن افلاسها وتسرح عمالتها التي لا يوجد بها إلا نزر يسير من السعوديين. ولو ضخت دولة أخرى مشاريع بهذا الحجم في مشاريع لديها لانتعش قطاع الإنشاءات وتطور فيها وأصبحت رائدة فيه بسبب تراكم الخبرة الإنشائية وتحول لقطاع عالمي. واليوم وبعد كل المشاريع الفلكية في المجال الإنشائي نجوب العالم بحثاً عن شركات تنفذ مشاريع الإسكان للمواطنين!!
ونحن وللأسف بلد صحراوي قاسي المناخ، بلد حار يحتاج كثيرا من الماء ليعيش حياة طبيعية بينما لدينا شح كبير في مواردنا المائية. ولدينا غطاء نباتي خفيف جداً معرض للتآكل والاختفاء تماما في حال عدم الحفاظ عليه وتنميته لأن تدهور هذا الغطاء سيسبب تدهورا في كل جانب بيئي آخر. وحياتنا الفطرية الحيوانية في طريقها السريع للانقراض بسبب الصيد الجائر، وبسبب القتل للتسلية فقط الذي يمارسه بعض المواطنين الذي يعانون من الضغوط النفسية. ومع ذلك فلدينا 14 مليون وافد، من بلدان وافرة المياه، يضغطون معنا على مواردنا المائية الناضبة، وبعضهم أساء لبيئتنا الزراعية الشحيحة، ونافسوا بعض المواطنين الضالين في قطع الأشجار لبيعها أو لمجرد العبث بها.
هناك اليوم إدراك متنام بنضوب النفط نتيجة للإسراف في الإنتاج والتصدير، ونحن نستهلك أيضا نصيب الأجيال القادمة منه. ولكننا أيضا نقضي بشكل منهجي على الحياة الفطرية النباتية والحيوانية ولهذا آثار اقتصادية وصحية بالغة الثمن، ربما أكبر من نضوب النفط، سندفعها مستقبلا. ولعل جهاز حماية الحياة الفطرية لدينا أقل الأجهزة خبرةً وقدرةً وعطاءً بينما يفترض به أن يكون أقواها. ويفترض أن تكون لدينا أفضل مراكز الأبحاث للحفاظ على الهيئة الفطرية، والحفاظ على المياه بتكريرها وحصادها. كما أن هناك أمرا مهما جداً وهو أن علينا وضع اشتراطات ونظم بيئية صارمة لقطاع التعدين التي ستعتمد عليه الرؤية، لأن الدمار الذي سبق وألحقته مشاريع الإنشاء وبعض مشاريع التعدين بالبيئة مكلف للغاية. وليتنا نستغل القوات العسكرية في أوقات السلم للحفاظ على البيئة وتنميتها. فبيئتنا الفطرية أمانة في أعناقنا ولن يسامحنا الله في توريثها مدمرة لأجيالنا القادمة.