إبراهيم عبدالله العمار
في تجربة صنعها أحد علماء النفس، اقتحم مهرّج قاعة فيها محاضرة علم نفس ويلاحقه رجل مسلح، وتصارعا وانطلق المسدس وهرب الاثنان، كل هذا في 20 ثانية. كان واضحاً أنها تمثيلية بسبب المهرج، وعرف الطلاب أنهم سيُسألون فيما بعد عن هذه التجربة. لكن رغم هذا فإن تقاريرهم امتلأت بالأخطاء، منها أشياء اختلقوها مثل: المهرج لبس ملابس أخرى، تفاصيل كثيرة تصف قبعة المسلح، رغم أنه لم يلبس قبعة!
الكثير من الناس يتمنى ذاكرة جبارة تتذكر كل شيء، لكن ذاكرتك صممها الله بحيث تكون ضعيفة بعض الشيء، فهي تملأ الفراغات وتتذكر العموميات أكثر من التفاصيل، وتجارب لانهائية تثبت هذا. لكن كيف يمكن لنظام الذاكرة لدينا إهمال تفاصيل كثيرة في ما نراه؟ أليس الأفضل أن يسجل المخ كل شيء بدقة؟ ليس بالضرورة، لأن هذا سيحشر مخك بالكثير من التفاصيل غير الهامة. غير ذلك فهناك دراسة عام 1920م استمرت 30 سنة أظهرت جانباً سلبياً في ذاكرة جبارة كهذه، ذلك أن عالم نفس روسي درس رجلاً اسمه سولومن شيرشفسكي يقدر أن يتذكر كل شيء بدقة، مهما كان تافهاً. امتحنه العالم وظهر أن شيرشفسكي يتذكر تذكراً كاملاً. لكن إليك الجانب السيئ: التفاصيل أعاقت الفهم. مثلاً، كان يصعب عليه تمييز الأوجه. لماذا؟ إننا نميّز الملامح العامة للأوجه، ونتعرف على الشخص بمطابقة وجهه مع المجموعة المحدودة من ملامحه في ذاكرتنا، أما شيرشفسكي فكانت ذاكرته تحوي نسخاً كثيرة جداً لكل وجه رآه، وكان يتذكر كل وجه بلا استثناء. كل إنسان له «أوجه» متعددة، فهناك وجهك السعيد والعادي والمحتار والغاضب والحزين والخائف وهكذا، حتى هذه تتكون من درجات كثيرة، فهناك وجه عابس ثم غاضب ثم مغتاظ وهكذا، وكانت ذاكرة شيرشفسكي تخزّن كل واحد من هذه الأوجه بأصغر تفصيل، عكس التخزين الطبيعي لدينا الذي يركز على الوجه العام ويستوعب تغييرات الملامح بمرونة. إذا رأى شيرشفسكي شخصاً يعرفه كان عليه أن يطابق وجهه مع مخزون هائل من الأوجه.
أيضاً كان لديه مشكلة مشابهة مع اللغة، فإذا كلّمته يحفظ كل كلمة تقولها بدقة ويقدر أن ينطقها كما قلتَها، لكنه عانى مع فهم كلامك. علماء اللغة يفرقون بين نوعين من تركيبة اللغة: السطحية والعميقة. التركيبة السطحية هي طريقة معينة تعبر بها عن فكرة، مثل الكلمات المختارة وترتيبها وغير ذلك. أما التركيبة العميقة فهي معنى كلامك. نحن نتفادى هذا الركام الفوضوي بأن نحتفظ بمغزى الكلام ونرمي الزوائد، وهكذا نحتفظ بالتركيب العميق (أي المعنى) فترة طويلة، لكن لا تستطيع عقول الناس العاديين أن تمسك التركيب السطحي (أي تفاصيل الكلام) أكثر من 10 ثواني. أما عقل شيرشفسكي فقد خزّن التركيبين العميق والسطحي للغة الناس، وهذا ما أعاق قدرته أن يفهم المعنى، مما أصابه بالإحباط لدرجة أنه كتب كل التفاصيل غير الهامة على ورقة وأحرقها، متمنياً أن هذا سيحرقها من ذاكرته أيضاً!
في النهاية .. تصميمك ممتاز.