د.فوزية أبو خالد
في مطلع هذا المقال لا بد أن أشد على كل الأيدي السعودية التي تعاضدت من قاع القوى الاجتماعية إلى قمة الدولة في استصدار قرار بتفعيل مواطنة نساء المملكة متمثلاً في الأمر الملكي السامي الذي وجه فيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بعدم مطالبة المرأة بموافقة «ولي أمرها» لتقديم الخدمات لها، ما لم يكن هناك سند نظامي لهذا الطلب وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
يبقى أنني كمواطنة في عمر معمر بالعشق لتراب هذه الأرض في شدتها ورخاءها وكشاهدة بالكتابة منذ عهد يافع على عقود من تحولات الدولة والمجتمع بكثير من تبادل المراوحة بين مد الجمود وجزر التغيرات والعكس، أستطيع بضمير معايش لقلق ذلك المد والجزر, وبفكر متأمل لأحوال البلاد في خضمهما وفي خضم الفجوات الواقعة بينهما, وبعقل قارئ لتأثيرات كل منها وتأثيراتها مجتمعة على المواطنين, أن أدلي بشهادة حق في الأمر الملكي الأخير. فهو قرار مأمول وقرار ينتظر منه تمكين النساء السعوديات من حقوق المواطنة في بلدهن باعتبارهن مواطنات كاملات الأهلية راشدات وذلك لتعزيز مكانة المملكة داخلياً وخارجياً بتلاحم كافة قواها الاجتماعية وعملها جنبا لجنب في دولة عزيزة الجانب بإذن الله.
ونحو هذا الهدف السامي ممثلاً بالأمر الملكي السامي لا بأس أن نراجع نقدياً بعض تجاربنا في هذا السياق. لقد كان ولا يزال وضع المرأة بمجتمعنا يشكل موضوعاً معقداً, كما تحققت من ذلك عبر البحث العلمي لموقع النساء في الخطاب السعودي، بما يمكن أن يجد فيه الباحث مقياساً موضوعياً دقيقاً لمد وجزر الجمود والتحولات معاً.. بل إنه ليشكل أيضاً مقياساً لفجوات الفراغ والتأرجح بين الجمود والتحول. ويتبدى ذلك في محاولة ترجيح كفة على أخرى، كما يتبدى أكثر في محاولة خلق معادلة سعودية بامتياز تعمل على مجانبة الجانبين (الجمود والتحول) وعلى تحقيقهما في الوقت نفسه، ما أمكن الجمع بين الجمود وبين التحول وما كان لمثل هذا الهدف السيامي على تناقضه من سبيل.
ففي البدء كانت هناك ضرورة محو أمية المجتمع رجالاً ونساءً وتوفير فرص التعليم العام للمواطنين كافة بدافع من متطلبات تعزيز مؤسسة الحكم للملكة العربية السعودية كدولة عربية مستقلة موحدة مستقرة وعصرية.. ولكن إذا كان التوسع في تعليم الذكور بما فيه إدخال التعليم النظامي والشروع في البعثات الخارجية وتدشين أول تجربة للتعليم الجامعي الحديث قد مر بتوافق ضمني، فإن فتح مجال تعليم البنات في الفضاء العام قد شكل إشكالية مركبة؛ وإن كان يمكن تكثيفها في سؤال محدد، وهو سؤال كيف تتعلم المرأة دون أن تتعلم.. -أي دون أن يفقد المجتمع مزايا عدم تعلمها، في ذات الوقت الذي يحصل فيه على مزايا تعلمها-..؟. وقد جرى إيكال أمر الإشراف عليه إلى المؤسسة الدينية الرسمية وبرعاية المؤسسة السياسية بالطبع.
وهناك قائمة شبيهة بأمثلة أخرى لتوخي حلول فيما يخص النساء كمقياس للحالة السعودية تجمع بين مد وجزر الجمود والتحول فيما يخص سؤال التغير؛ ومنها تدريس البنات الجامعي عبر شبكة التلفزيون المغلقة ومثال التحاق النساء بأعمال في الفضاء العام كان أولها حضور المرأة كطبيبة وفي الأعمال الطبية المكملة ولم يكن آخرها فتح باب التعليم العالي لالتحاق الطالبات بالبعثات الخارجية. فظل حضور النساء في الفضاء العام لسنوات يتطلب منهن الجمع بين أن يكن موجودات وغير موجودات في آن واحد؛ أي حاضرات ولكن غير مرئيات. وفي موضوع البعثات جرى اشتراط المحرم ليكون في صحبة الطالبة حتى لا تكون المرأة في الغربة بمفردها وإن تجشمت ميزانية التعليم العالي الصرف على كل طالبة مع محرمها من الذكور. وهذه كلها عبارة عن محاولات مكلفة معنوياً وليس مادياً وحسب.
لقد كتب عن استحقاق في أقل من أسبوع عدد كبير من المقالات وخاصة بأقلام كاتبات، كما ربما لم يكتب من قبل عن أهمية الأمر الملكي السامي لتمكين السعوديات باعتباره اعترافاً منذ تأسيس المملكة برشد المرأة وبأهليتها في تصريف شئونها في التعاملات الرسمية وفي جعل أمر استفاداتها من الخدمات الوطنية العامة بيدها لا بيد من له صفة «ولاية أمرها». ولقد جرى الاستبشار خارجياً بهذا القرار على أنه قد يكون مؤشراً على بداية عمل المملكة جدياً لأن تكون باتجاه إصلاح أوضاع النساء محلياً استجابة لمسؤوليتها.
وهذا يجعل هذا القرار السامي بحد ذاته أملاً في أن لا يقف الاعتراف بأهلية المرأة وبمواطنتها وبمسؤوليتها كمواطنة عند حدود هذا التمكين بل يكون منطلقاً لإقرار قانوني بعدة ضمانات حقوقية في حق النساء ومنها:
- تقنين سن الرشد.
- تقنين سن الزواج بسن الرشد.
- التشريع القانوني لحق النساء السعوديات في جميع مزايا المواطنة المستقلة للإنسان العاقل الحر البالغ الرشيد.
- تفعيل الأمر السامي ليأخذ صفته الاعتبارية السامية قانونياً وتنفيذياً، ولا يكتفى بالنظر إليه أو التعامل معه كإجراء إداري قابل -لا سمح الله- للتراجع عنه أو للاستبدال.
وأظن الشهور الثلاثة الممنوحة لمراجعته على مستوى جميع دوائر الخدمات الرسمية قد يتيح أن تكون مبادرة هذا القرار أعمق من تجاربنا السابقة.