عبدالوهاب الفايز
نعم، كانت مفاجأة من العيار الثقيل..
من كان يتوقع فوز المرشح المستقل ماكرون بالرئاسة الفرنسية، ذات الهيبة التي لم يحلم القرب منها عدا مرشحي الأحزاب الكبيرة منذ قيام الجمهورية الخامسة، والآن يأتي مرشح مستقل لم يخض أية انتخابات سابقة وبعمر 39 عاما ليفوز برئاسة دوله عظمى لها حضورها في الشأن الدولي، واحد أركان الاتحاد الأوربي.
ما يهمنا من الانتخابات الفرنسية، ويهم كل متخوف من تطور النزعات العنصرية الشعبوية، هو أن يكون هذا الفوز بداية لوقوف الأوربيين ضد الحركات اليمينية المتطرفة التي بدأت تزحف على أوروبا، وهذه الحركات الجماهيرية يتخوف منها الأوروبيون لأنها تذكرهم بالحركات (الفاشية والنازية) التي أوجدت البيئة السياسية الحاضنة لقادة مثل هتلر وموسيليني، وهؤلاء قادو الشعوب الأوربية لحروب ومآسي مازال الأوربيون والعالم يتذكرها بمرارة، وهي التي دفعت القيادات السياسية الذين شاهدوا أهوال وفظائع الحروب، أمثال ديغول، إلى الإيمان العميق بالوحدة الأوربية، حتى تتوحد مصالح الشعوب وتنمو الرابطة السياسية والروحية ضد الحروب ودعاتها.
فوز ماكرون، ضد ماريان لوبان قائدة الحركة العنصرية المتطرفة، هو تصويت من الشعب الفرنسي ضد هذه الحركة المخيفة، وربما يكون لهذا الفوز أثره الإيجابي داخل أوروبا، لأن فرنسا كانت تقدم على أنها رائدة وقائدة مبادئ الحرية والمساواة والانتصار لحقوق الضعفاء في التاريخ الحديث. طبعا الفرنسيون مازال أمامهم الكثير لكي يعملوه لأجل كبح نمو الحركة الجماهيرية المتطرفة. عليهم العمل على تقريب المواقف السياسية والتقليل من حدة الاستقطاب بين الأحزاب التي تولد النزعات العنصرية والمتطرفة، فالحركات الجماهيرية عادة تتغذى على الانقسامات السياسية ولا يخمد حراكها الاجتماعي، إذا بقيت الانقسامات والصراع وسباق المصالح بين السياسيين قائما ومتغذيا على انقسام المشاعر والمخاوف، وهذا ما تقوم عليه الحركات السياسية الجماهيرية الأوربية، حيث يستغل المتطلعون للسلطة الرهاب من الأجانب والمهاجرين لبناء قاعدة للعمل السياسي والحزبي.
ما كرون، بخبرته السياسية المحدودة مقارنة بالمتنافسين على الرئاسة، ربما لا يُقدم في إطار القيادات السياسة التقليدية، فهو قائد ومتبنٍ لحركة جماهيرية (إلى الأمام)، وعبرها استطاع أن يطرح أجندته السياسية القائمة على البقاء في الاتحاد الأوربي والإيمان بالشراكة الأوربية، وحتى يكون رئيسا لكل الفرنسيين عليه أن يواجه مخاوف ومشاكل ثلث الناخبين الفرنسيين الذين يرفضون برنامجه ممن فقدوا أعمالهم في المدن الصغيرة، فهؤلاء هم مصدر حركة لوبان، وهذا التحدي سيبقى ليس أمامه كرئيس، بل هو تحدٍ لكل القيادات السياسية المؤمنة بضرورة الوقوف ضد النزعات العنصرية الخطيرة، والرئيس الجديد الذي لا تملك حركته بنية سياسية وبدون نواب في البرلمان، أمامه عدة تحديات ولن تكون مهمته سهلة، ويبقى الوضع الاقتصادي هو الأبرز الذي عليه مواجهته، فأمامه ضرورة تحويل الأوضاع الاقتصادية لتنتج الوظائف وتمتص المخاوف من المستقبل، وبالتالي إفراغ الحركة العنصرية للجبهة التقدمية من مصدرها الروحي.
من الأمور التي تقدمها الانتخابات الفرنسية ما نجده في سياق الفهم وأخذ العبر من العمل السياسي، فالرئيس الجديد لم يخدمه تاريخه وعمق تجربته، فقد خدمه (حدسه السياسي)، إذ وجد الفرصة سانحة بسبب الانقسام الحاد في المشهد السياسي، وراهن على هذا الواقع المحطم، وهذا تقريبا نفس الحدس الذي قاد دونالد ترمب في أمريكا، إذ راهن على الوقوف ضد المؤسسة التقليدية في واشنطن، بأدبياتها السياسية وماكينتها الإعلامية.
الرئيس الجديد أمامه تحد كبير وهو صناعة الإجماع الوطني، فالقيادة السياسية ممارسة حذرة وحكيمة للقوة، والاستمرار في المراهنة على ظروف معينة وقتية لعبة خطرها وقد تكون الشعوب ضحيتها، وما أكثر العبر والدروس التي تحفظها مجلدات التاريخ!