د. محمد عبدالله العوين
سحق إيمانويل ماكرون بفوزه على منافسته اليمينية مارين لوبان شعاراتها المعلنة المرفوعة الداعية إلى إخراج المسلمين من فرنسا، وتقييد شروط الهجرة، والتضييق على المقيمين على الأرض الفرنسية من الجنسيات المختلفة، وتأييد إسرائيل، والدفاع عن بشار الأسد، وتأييد إيران، والوقوف مع روسيا في احتلالها لسوريا ودعمها بشار، وما إلى ذلك من دعوات ليست جديدة على الجبهة الوطنية التي تنتمي إليها؛ فقد كان والدها مؤسس حزب الجبهة ورئيسه من أكبر الداعين إلى إخراج الأجانب من فرنسا، وإلى حصار الإسلام والمسلمين في فرنسا، وكان العرب والمسلمون في تلك السنوات التي رشح فيها نفسه للرئاسة يعيشون قلقين متوترين إلى أن تنفرج الغمة بهزيمته، ولم تكن ابنته التي ورثت ذلك القدر الكبير من الفكر الشوفيني المتطرف بأحسن حظا من أبيها الهالك؛ فهاهي تمنى بهزيمة ساحقة بنسبة تزيد على 65% ويعلن الشعب الفرنسي الذي امتلأ على مدى قرون بفكر عصور التنوير وتشبع بمبادئ الثورة الفرنسية أنه لن يعود إلى الوراء ويقف في صف الدول الدكتاتورية المستبدة كروسيا وسوريا بشار أو الكهنوتية التي تعيش في عصور غابرة كإيران.
ربما لن يلفت انتباهنا عربا ومسلمين شأن فرنسي خالص يهم الفرنسيين أنفسهم، فالأمر سيان لو فاز اشتراكي أو يميني أو معتدل إذا كانت سياسة الفائز لن يكون لها تأثير كبير على غير الفرنسيين داخل فرنسا، وهم يشكلون نسبة ليست بالقليلة؛ إذ تتراوح نسبتهم بين 5-8% أي ما يزيد على خمسة ملايين، أو لن يكون لها تأثير على المواقف المؤيدة أو المعارضة للحقوق العربية بعامة؛ سواء في فلسطين، أو تجاه ما تمر به المنطقة العربية الآن من تغول للأطماع الصفوية الفارسية.
وإذا كنا اليوم سعداء بفوز ماكرون ونحن خارج فرنسا؛ فكيف بالعرب والمسلمين الذين يعيشون على الأرض الفرنسية ؟! ولنتخيل كيف هي مشاعرنا ومشاعر إخواننا داخل فرنسا لو أن تلك المتطرفة المدعوة ماري لوبان حققت الفوز بمقعد الرئاسة وأعادت رسم السياسة الفرنسية في الداخل والخارج منسجمة مع فكرها اليميني المتطرف؟!
ومن الجدير بالتأمل أن نقف اليوم عند فشل ظاهرة التعصب التي تطفو في بعض الفترات على السطح الإعلامي بتأثير عوامل وأسباب مفتعلة يراد منها أن تحدث رد الفعل المتعصب تجاه العرب والإسلام؛ كما هو شأن قبائح جرائم «القاعدة» وبعدها «داعش» التي يخطط لأفعالها في عواصم العالم أن تكون شديدة في بشاعتها؛ كي تحدث مزيدا من الكراهية للعرب وللمسلمين.
وهو ما نجحت فيه العقول الشيطانية الصفوية وعملاؤها، ولكن تأثير تلك الجرائم سرعان ما يتلاشى حينما تكتشف الأيدي وتتساوى في شكل وتصنيف وطريقة اقتراف الجرائم في كل أرض يدنسها الصفويون أو حرسهم الثوري أو أحزابهم ومواليهم.
تطفو مشاعر التعصب والكراهية أياما أو أسابيع، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها، وتحتكم الشعوب إلى العقل والمنطق والمبادئ التي تحمي الحياة من الانهيار والحضارة من الزوال.
وها هو الرئيس الفرنسي الشاب المتوثب المتوهج يعود يستلهم في خطابه المرتجل الذي ألقاه في ساحة اللوفر بعد فوزه مباشرة روح مبادئ الثورة الفرنسية، ويقول: «لن نخذل العالم في الدفاع عن الحريات والتعايش السلمي» ثم يؤكد على أن فرنسا التي أسست نهضتها على قيم الحرية والعدالة والمساواة لن تقف متفرجة دون أن تدعم المظلومين والمضطهدين، وكأنه بانتصاره على دعوات العنصرية التي مثلتها لوبان في شعاراتها طوال فترة الانتخابات وعبر تاريخ حزبها المقيت يسجل انتصار فرنسا وقيم نهضتها لا انتصاره هو للفوز بسدة الرئاسة.
جدير بالفوز هذا الشاب الذي قدم عبر سنواته السياسية القليلة التي لا تزيد على أحد عشر عاما مشروعا سياسيا متكاملا في كتاب اسمه «الثورة» طبع منه عام 2016م مائتي ألف نسخة واستمد منه خطوطا عريضة لحملته الانتخابية تمثلت في تأكيد قيم الليبرالية الفرنسية والمساواة الإنسانية والسلام العالمي، إلى جانب الوحدة الأوربية وحلف الناتو.