د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في زمن غير بعيد استُبدل بالإصلاح «التنظيم» فصار اسمُها: «اللجنة العليا للتنظيم الإداري» بتبرير أن «الإصلاح» يعني - من الزاوية المقابلة - وجود فساد، وهو ما لم يره المسؤول حينها، والظن أن اللجنة لو لم تُلغَ لكان اسمها: لجنة الفساد الإداري؛ فكأنّ الأصل صار الفساد والإصلاح الاستثناء.
** تتغير المفردة وتتطور دلالاتها كما توظيفاتها، وتزداد أو تنقص الحساسية من استخدامها، وحدَّث ناشرٌ أن ديوانًا لديه لم يُفسح - حين عرضه على الرقيب قبل عقود - لوجود كلمة «ثورة»، فلما أبدل بها كلمة «ثور» فُسح الديوان، وهي حكاية رمزت إلى ما ظنه الأكثرون في الرقباء من هامشية ذهنية جعلتهم مجرد أجهزة «مسحٍ» بشريةٍ يستوقفها اللفظ دون أن يحلق بها المعنى.
** ذاك زمن انقضى، والرقابة صارت من الماضي، وحين يتعثر كتاب أو مقال أو نص في مسارٍ إعاقي فالفضاءات التي ستطير به ممتدة، وإمكانُ بلوغه المساحات المفتوحة أكثر تهيؤًا بعد المنع منها حين المنح، ومن خشي من ترادف «الإصلاح والفساد» معجميًا بات يرددهما علميًا وعمليًا وإعلاميًا حتى صارا الأكثرَ تداولًا وتناولا.
** الفارق بين زمنيْ مصادرة مفردة «إصلاح» وتتويج «فساد» لا يتجاوز عقدًا واحدًا بالحساب الزمني، وإن بدا فارقًا ضوئيًا بحساب المتغير المجتمعي والسياسي الذي أتاح ما لم يُتح أو يُبح، وكأي طارئٍ فقد صار الحديث عن الفساد صَبوح وسائطنا وغَبوقها، ومدار جلساتنا ومنارها، وأوغل فيه العامة كما لم يُوغلوا، وتفنن الخاصة كما لم يفعلوا، وصار الأصل في «الموظف»- بكل رتبه - الفساد حتى تثبت إدانته، وتبادل الناسُ الشبهات قبل الإثباتات، وتوهم الأكثرون براءةَ ذممهم ماداموا لم يتجاوزوا دور التناقل لما ذاع وشاع وإن لم يقم دليل إدانة، والأقرب أن الإثم سيلحق من تقوَّل ومعه من نقل.
** وعينا في الأثر أنه «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم»، وربما لحق به من قال: فسد الناس، ولو طلبنا تزكية القائلين في علمهم وعملهم وتعاملهم كي نفصل بين «شهاب الدين وأخيه» (أو: المتهِم والمتهَم) لأعطينا مثلًا محسوسًا للبيت العتيد: «لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله..».
** المبالغة لا تخدم البلاغة، كما أن استهلاك المعاني الكبيرة في عبارات سوقية، والخوض في أعراض الناس، والجري خلف القطيع، والتركيز على ضفة دون أخرى أدواءٌ تحتاج إلى علاج متزامن كي لا تطغى الإثارة والانتقام وتصفية الحسابات والمعلومات الملفقة على الحقائق فيفقد الإصلاح وهجه ويتغلب التلفيق على التوثيق، وربما استحال الجدلُ إلى اتهامات متبادلة تشكك في النظام العام وتعد الجميع مدانين ولو ثبتت براءتهم، وقد يحل السوط محل الصوت.
** الفوضى تعم فتغم.