د. خيرية السقاف
قُدِّر لي التوجه إلى المطار دون حجز مسبق, وفي أول فرصة أتيحت كان لي مقعد بين صفوف الدرجة السياحية, ومع ضيقها بحيث لا تستوعب جسداً ضخماً حمدت الله أن استوعبني مقعدها فنزلت بصمت بين أرتال الناس يحملون حقائب أيديهم بشكل عشوائي إلى أعلى رؤوسنا, وقلبي يخفق حذراً أن تقع فوق رأسي واحدة منها, أو رؤوس الجالسين, وهم قبل جلوسهم كانوا يتناكبون بحيث لا تميز بينهم, غير عابئين بمن يوجههم إلى الهدوء, وأخذ مقاعدهم دون فوضى, وهناك من لا يزال يرفض الجلوس جوار امرأة, وأخرى تقف في انتظار تدبير مقعد لها جوار امرأة!!..
ما يلفت في سلوك الناس يرهق الحس كثيراً, ويُحزن النفس.. تحديداً بعد الاستقرار, وبدء تعليمات المشرف بطلب تعطيل إرسال الهواتف, والأجهزة, وربط الأحزمة, فإذا بالجميع دون استثناء إلا قلة بين كل ثلاثة مقاعد تجد واحداً قد استجاب, أما البقية فمنهم من يواصل مكالماته, وبعض الهواتف ترسل رنين اتصال ما, وفيهم من يلتقط صوراً, ومن يجري محادثة والطائرة تسير بهدوء استعداداً لشحذ همتها للصعود!!
وتزيد الدهشة فيما يجري من نقاشات طويلة بدأت بين كل اثنين, وصراخ أطفال يتلقون نهراً من أم, أو أب!! بين كل هذا من يشعل علامة استدعاء المضيفة, فإذا ما حضرت جاءت الأسئلة سطحية, والحاجة لم تكن!!
الطامة المتعبة ما آلت إليه نهاية الرحلة..
الممر الطويل شوّهته بقايا الصغار, والوقوف الجماعي المفاجئ مذ احتكت عجلات الطائرة بالأرض, والأيدي التي تشابكت فوق رؤوسنا لاستخراج الحقائب اليدوية, وما أدراك ما تكون حجماً, ووزناً, حتى تكاد تختنق فلا هواء, ولا مجرى طبيعياً للتنفس!
ترهقك التساؤلات التي تخرج من صدرك بين شفتيك فلا تكاد تجد من يسمعها, أو يعيها
إلى متى والفرد الواحد لا يشذب سلوكه في هكذا مواقف, ومواقع؟!
إلى متى والتوجيهات التي تصل كل المسامع في الطائرة بالتزام الهدوء, والعودة للمقاعد حتى تقف الطائرة, والإبقاء على ربط الأحزمة, وعدم تفعيل الأجهزة في الأيدي يُضرَب بها عرض الحائط, وتصفح عنها الآذان, ومن ثم لا يمتثل لها سلوك الأفراد؟!
أوَليس هذا السلوك ينم عن الاستهتار, وعدم المبالاة، بل يرقى إلى عدم الشعور بالمسؤولية؟ ثم, أليس من اللائق احترام الجالسين في أماكنهم, وعدم السطو على توالي ترتيبهم في الدخول والخروج دون السقوط عليهم بعجلة الرغبة في المغادرة, أو حتى أخذ المكان المخصص دون اعتراض, وفوضى قبل ذلك؟!
إنهم يشبهون كثيراً أولئك الذين يقودون عرباتهم في الشوارع, والطرقات وهم يرتدون ملابس لا تليق إلا بانفراد المرء داخل بيته, وأولئك الذين تقابلهم في مراكز التمويل الغذائي, والصيدليات, بل المصحات وهم بثياب الراحة التي لا تليق بخارج حدود بيوتهم, بل هناك من يتجه بها للمسجد وهو يذهب إلى الصلاة, ومن يستقبل بها طارقاً على باب بيته..
إن خدش الذوق, والسلوك غير المسؤول من قبل الأفراد في أي مكان ليس دليلاً على "حرية" التصرف, بل هو قرينة دالة على ضرورة إعادة تربية المرء نفسَه, وتشذيب سلوكه, وردع ذاته, وتقييد حركته بقيود آداب المكان, وآداب التعامل مع الآخر, وآداب الاستفادة من الخدمات والوسائل, احتراماً للذات, ولوجود الآخرين معه يشاركونه الحالة, ولتقييد هذا السلوك بضوابط معايير هذه الآداب العامة, التي لا يختلف فيها اثنان, بل الإنسان ونفسه!!
لقد خرجت من مقعدي إلى الممر بعد أن فرغ ورأسي سليم ولله الحمد, حيث قبعت في مكاني, أتنفس بصعوبة, أتأمل بألم, أتساءل بكثير من القلق: إلى متى هذا التناقض سمة للعامة بيننا, إلى متى وهذا هو الوجه الصادق لتفاصيلهم؟!