التقيت صديق العمر! فهو معي أو ربما أنا معه منذ الأول الابتدائي حتى تخرجنا سوياً من نفس الجامعة. وعملنا بأماكن مختلفة بسبب فارق الاختصاصات، ثم تقاعدنا بفارق زمني بسيط، بالرغم من أنني موظف حكومي وعمل هو في القطاع الخاص.
خضنا سوياً حمّامات التلقين في المدرسة، وتمردنا سوياً عليها في نفس المراحل العمرية، بالرغم من أننا نسمع مذ كنا صغاراً أن هناك نية لتغيير المناهج. وعندما نفترق حتى لو لمدة عام أو أكثر ثم نلتقي مجدداً أجده قد قرأ نفس الكتب التي قرأتها أنا تقريباً، وتوصل إلى نفس الاستنتاجات، وكأن النقاش معه ليس ضرورياً! ولكني لا أستغني عنه، لأنه نقاش بنّاء وليس مصارعة حرّة كما هو الحال مع كل الآخرين الذين أعرفهم، فهؤلاء مهما كانت علاقتي بهم حميمية، يكون آخر همّهم الوصول إلى تصوّر مشترك حول أي موضوع مهما كان بسيطاً.
تجدهم في البداية كالحملان الوديعة، ثم يطرح عليك أحدهم سؤالاً، وغالباً ما يتعلق بموضوع الساعة، ثم يصيخون السمع، فتحسبهم قد استوعبوا ما قلته بناءً على المعطيات التي استخلصتها بشق الأنفس من الإعلام المُرائي، وعندما تنتهي من مداخلتك تجدهم قد التقطوا كلمة في غير محلها أو تعبيراً ركيكاً لم يوضح تماماً ما كنت تقصده، فينهالون عليك بصواريخ كلامية من كل حدب وصوب، ويتحول النقاش إلى معركة صاروخية، ويضيع المضمون، ولن تجد فرصة للرد على كل تلك الصواريخ، فإما أن تقبل الهزيمة بالسكوت وانتظار الكبسة، أو تقبل الهزيمة بالخروج من المصارعة الحرة أو المعركة الصاروخية تلك، أي من المجلس كله وهو الأفضل.
اشتكيت لصاحبي هذا الوجع، فقال: أنا أعاني أيضاً من نفس المشكلة، ولا أجد من يتجاوب معي بالأسلوب الذي أراه صحيحاً إلا أنت.
أنا- ولكني لا أجد معك رأيا آخر أعتبره جديداً، والجديد بالنسبة لي هو الحياة ذاتها، فلا أريد منك أن تكون ظلاً لي أو أكون أنا ظلاً لك، فعندما أراك كأني أرى نفسي بالمرآة. .. هو- وأنا كذلك .... أنا- سبحان الله ... أنا لست مستنسخاً منك أو أنت مني، وبالرغم من أن لدينا عوائل، يوجد بينهم انسجام تام نادراً ما يحصل لدى عوائل أخرى، فلا توجد (تراشقات) نسائية أو ولادية أو بنّاتية، والأولاد والبنات تزوج كل منهم هاتفه النقال! ووضعونا في حسرة، لا يوجد لدينا حتى أحفاد يشعروننا باستمرارية الحياة، وبالرغم من أنني لا أستغني عنك، ولكنني أشعر أن لقاءاتنا ذات رتابة قاتلة ولا بد من جديد! .... هو- عندي نفس الشعور ما العمل إذن؟
أنا- أريد منك شرهة! .. هو- ولكنك تعلم تماماً أني لا أملك شيئاً! وحتى أنني أصبحت ميكانيكي سيارات من كثرة ما أرمم سيارتي القديمة لأنني لا أملك ثمن الجديدة! .. أنا- وبصوت عال، لا أريد منك شرهة مادية أو شرهة غنم! إنما أن تقرأ كتاباً لم أسمع به قط، وما أكثرها، فأنا لست قارئاً -كما تعلم- بالمعنى المتعارف عليه، وأعرف اختياراتك، وهي تناسبني تماماً! .. هو- هذه هي المشكلة بالذات، فالكتب المقبولة لدينا نحن الاثنين هي ذاتها، وعندما ألتقي معك، حتى ولو بعد حين أجدك قد سبقتني للكتاب ذاته، والأمر يشمل الإعلام ونشاطات النوادي الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، والأفلام الأميركية والهندية! .. أنا- ... يا ملعون الوالدين ... لم أفتح لك باباً إلا أغلقته، كيف أعيش إذن؟ أين الحياة؟ ... هو- وهل تعتقد أنك كنت تحيا سابقاً؟ ... أنا- ولكني لن أهاجر حتى لو توفر لي مائة مليون دولار! .. هو- وأنا كذلك ... لا أستطيع قبول الغربة، حتى في بلدي!
- د. عادل العلي