الإنكفاء في هذه الحياة الجديدة صعب المنال بل مستحيل حتى ولو أغلقت عليك بابك ودارك ما لم تكن في حفرة طولها متران وعرضها متر ! وما كان يُعتقد في أدبيات المجتمع محرّماً في الماضي القريب أصبح حلالاً اليوم فقد كان (صحن الدش) ذلك الغطاء المعدني بالأمس من أكبر الكبائر ومن أعظم الموبقات هذا عدا قيمته الباهظة التي لا يقدر عليها إلا الميسورون من الناس فقد كان جلبه وتركيبه من حذلقات الذكاء وبطريقة وجرأة وتمرد على المجتمع وبتستر وخفاء كمهرّب الممنوعات المخدّرة - ومن قبله جهاز الفيديو وأعتقد كما كان يحكي لي أبي رحمه الله أن الراديو أيضاً يُحبس صاحبه ويُعزر إذا ضُبط معه متلبساً ! - لذلك كنّا ننظر إلى (صاحب الدش) نظرة كلها ازدراء وشك وريبة في استقامته وأن ليس له حظ في الدين !
ثم تحركت عقارب الزمن حتى أضحى مع مرور الوقت أداة يلهو بها أشد الناس فقراً وتراه على غرف السائقين وفوق غرف خزانات المياه في بيوت الدعاة وأئمة المساجد وأكثر الناس استقامة ! ذلك أن الوعي بثقافة العلم والمعرفة شبه معدومة لدى شرائح المجتمع في العالم الثالث بشكل عام وعالمنا بشكل خاص حتى المتعلم منهم وفي المجتمعات الأكثر تديّناً أيضاً ! والصحوة خلقت فجوة كبيرة بين الحرام والحلال وبين التطرف والاعتدال وبين الاجتهاد والتأويل وكما قلت في مقالة سابقة أن القراءة الذكية والصحيحة كانت شبه معدومة واكتفى الشباب بالاستماع فقط دون اللجوء إلى القراءة والمناقشة والتحليل فأصبح الجميع يأخذ القشور ويترك اللب فاغتنمها الليبراليون الجدد للتعيير والتدليل على التخلف والرجعية لأن الإنسان عدو ما يجهل كما يقال وهذا صحيح فقد شكلت كثير من التكنولوجيا الحديثة خطراً دائماً على المفهوم الديني واستراتيجيات المجتمع المحرّمة بما يسمّى بالعرف أو التقاليد والنظرة للسلبيات كعقبة دائمة من باب سد الذرائع التي أصبحت أهم من الخوض في رؤية مستقبلية تحفّها الإيجابيات والعمل على تجاوز تلك السلبيات وربما كان التخلف من تلك النظرة التي وصمنا بها زمناً ومازالت تلاحقنا إلى يومنا بحيث لم نأخذ من الغرب هذه التقنيات ومن ثم نطوّرها فأخذنا ما هو سلبي وتركنا ماهو إيجابي بحجة الحرام ومخالفة الدين ! بالأمس أيضاً كانت السينما في شركة أرامكو بأبقيق والظهران وكنّا نحضر للاستمتاع في نهاية الأسبوع ولم ينكر أحد ذلك وأعتقد أنها بلا تذاكر أو حجز ولم تؤثر سلباً ربما لكونها كانت محدودة ! واليوم الحديث كله عن السينما والموسيقى والتي خرجت بها وزارة الترفيه هكذا دون مقدمات وقد درسنا في علم الإدارة أن التخطيط الجيد هو نجاح كل مشروع وبرنامج وهذا ما تفتقر له وزارة الترفيه في كثير من أنشطتها وخصوصاً التي تعوّل بها على القطاع الخاص حيث أن الشواهد تشعرك بعشوائية غير مسبوقة خوفاً من مسابقة الوقت لهم دون تقدم يُذكر ومن ثم قد يُشبعوا من المجتمع لوماً وسخرية عبر مواقع التواصل وهم يرون بعض دول الجوار قد سبقونا في ذلك بزمن ليس ببعيد ولا شك أن هناك خطوطاً حمراء لا يجب تجاوزها مهما بلغنا من الانغلاق وهذا ما يدخلنا في نفق الثقافة الواسع والكبير بحيث تختلف فيه المفاهيم والقيم وتُبنى بطرق خاطئة في بعض العقول ولكن التخطيط والتركيز يجعل من المستحيل ممكناًبطريقة أكثر دينامكية ! ولا بد مسألة التزاوج الفكري والعملي مع وزارة الثقافة التي أيضاً معنيّة بشكل كبير في مسألة الترفية حيث تكون حاضرة في وجدان المعنيين فالترفيه يجب أن تكون مسألة ثقافة بالدرجة الأولى حتى تستحق الديمومة والاستمرار بضوابط شرعية واجتماعية وليست عبثاً وقتياً ! أذكر فيما مضى أن الفنانة السابقة شادية سألت الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله عن الفن وهل هو حرام أم حلال ؟! فقال: أعطوني سكيناً ! ثم قال: انظري إليها قد تكون حراماً إن اُستخدمت لغرض الحرام وقد تكون حلالاً إن اُستخدمت للحلال !
- زياد السبيت