سهام القحطاني
تجذرت «فتنة الهوية» في التاريخ الإسلامي بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانقسام الصحابة نحو مسألة «الثأر أولاً أم ترسيخ السلم الاجتماعي في مجتمع المسلمين حينذاك وإعادة صياغة معايير وحدة الهوية كما رسمها الخطاب القرآني تحت شعار الأمة».
واتضح جليًّا هذا الانقسام بتغيير العاصمة من «المدينة المنورة» إلى «الكوفة»، وهو تغيير له رمزيته الخطيرة، الرمزية التي أكدت فتنة الخلاف، وعزّزت انقسام «هوية الأمة الإسلامية» لتنتج بعد ذلك معركة الجمل، عندما قاتل المسلم المسلم، وقتل المسلم المسلم، والدم يفسد وحدة أي هوية..
ثم تأتي المرحلة الأكثر ألمًا في تاريخ المسلمين: مقتل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - واختطاف معاوية بن أبي سفيان الحكم بالسيف، ليقطع بذلك الأصل الذي أسسه القرآن للنظام السياسي في الإسلام «الشورى»، ويبتدع ما سمي بعد ذلك بـ»الخلافة العضدية»، أو ما عُرف في التاريخ «بالخلافة الأموية».
والخلافة هي مجرد نظام من الأنظمة السياسية التي صاغها معاوية بن أبي سفيان على غرار الإمبراطوريات العضدية التي كانت قبل الإسلام، وقد كان معاوية بن أبي سفيان تاجرًا كثير الترحال، وقد شاهد الأنظمة السياسية لتلك الإمبراطوريات فصاغ حكمه على غرارها.
ولذلك لا يمكن القول إن نظام «الخلافة» هو معادل للحكم الإسلامي الصحيح كما تدعو بإحيائه الحركات الدينية التطرفيّة وتتمثلها.
لقد كان معاوية بن أبي سفيان عربيًّا متطرفًا، سار على نهجه أبناؤه؛ وهو ما أدى إلى سقوط الدولة الأموية فيما بعد.
وأهم مظهرين دلا على هذا التطرف إحياء العصبية القبلية بين المسلمين من خلال «شعر النقائض» الذي كان يتطور بمباركة النظام السياسي الأموي.
ولا شك أن لهذه الإحيائية فائدة للنظام السياسي الأموي؛ فقد كانت تُشغل الناس عن مساءلة هذا النظام. ولم يقتصر هذا النظام على إحياء العصبية القبلية، بل إنه أحدث انقسامًا في هوية العربي ذاته، عندما فصل منطقة الحجاز لوجستيًّا عن عاصمة الخلافة وهمّشها بسبب وجود الصحابة وكبار التابعين فيها الذين رفضوا مباركة النظام التوريثي لمعاوية، وهذا التهميش أوقع المنطقة فيما بعد في التطرف الديني والتخلف الحضاري.
والمظهر الآخر ظهور ما سمي «بمصطلح الشعوبية». والشعوبية كانت رد فعل من المسلمين غير العرب، خاصة العرق الفارسي نحو تطرف النظام السياسي في تضخيم الأنا العربية وتحقير ما دون العرق العربي.
وهو تضخيم أسقط نظرية التفاضل في الإسلام المبنية على «قيمة التقوى» لا «قيمة العرق»، ولم تكن الشعوبية حركة فردية أو اجتماعية بل حركة كان للأدب دور في تعميقها وترسيخ مشاعر التمييز التي حوّلت المسلمين من غير العرب إلى أقليات مضطهدة، هذا الاضطهاد الذي دفع المسلمين من العرق الفارسي مثل أبي مسلم الخرساني إلى المشاركة بالتخطيط لإسقاط الدولة الأموية مع أبي العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية فيما بعد.
أسس الإسلام أهمية المفاضلة على «قيمة التقوى» كان الهدف من ذلك: تنقية وعي المسلم من العصبية لأي خلفيات عرقية أو ثقافية، كما أن ذلك الهدف كان يسعى إلى عالمية العقيدة، وأن كل إنسان مهم تعددت خلفياته العرقية أو الحضارية أو الثقافية يستطيع الاندماج مع الهوية الجديدة دون «محاصرات تمييزية»؛ ولذلك دخل في الإسلام أفواجًا من الشعوب المختلفة العرقيات والحضارات والثقافات.
لكن ما حدث في العصر الأموي والعباسي بعد ذلك أنقض أساس التأسيس لقيمة الهوية في مسارها الأممي.
والسبب يعود إلى «طبيعة العربي في التعامل مع الآخر». لقد تعوّد العربي قبل الإسلام اعتبار الآخر سواء المختلف عرقيًّا أو لغويًّا بمثابة مواطن من الدرجة الثانية فهم غالبًا كانوا «العبيد والرقيق»، وبعد الإسلام حمل هذا الاعتقاد معه وظهر جليًّا من خلال الأنظمة السياسية العضدية القائمة على التوريث.
وعندما تدافعت الشعوب للدخول إلى الإسلام، خاصة من الشعوب ذات الحضارات العريقة كالفارسية والرومانية، تعامل النظام السياسي معهم كصورة معادلة للعبيد والرقيق، لا كأصحاب خبرات ثقافية وحضارية، وفي المقابل رفض المسلمون من أصحاب الحضارات معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، خاصة أنهم أصحاب حضارات عريقة مقابل العرب الذين فتحوا بلادهم وهم لا يملكون خبرات علمية ولا حضارية، وردة الفعل هذه هي التي أظهرت حركة الشعوبية.
ورغم مساعدة المسلمين الفارسيين للحركة العباسية إلا أن الشعوبية ازدهرت في العصر العباسي بصورة واضحة فظهرت مصطلحات نقدية تمييزية، مثل طبقة شعراء العرب وطبقة المولدين وطبقة المماليك وطبقة الموالي، وهي مصطلحات دالة على تفكك الهوية الإسلامية وضياع صفة الأممية الأصل الرئيس للهوية في الخطاب القرآني، وهو ما يعني أن النقد الأدبي في هذه الفترة كان له الدور الكبير في توسيع دائرة انشقاق الهوية.
كما اتهم بعض الأدباء المولدين بالزندقة، مثل عبدالله المقفع وأبي نواس، لتظل حقيقة هذا الاتهام تائهة بين الروايات التاريخية.
ودخلت الترجمة مجال معركة الشعوبية، فأصبحت ترجمة الأعمال الهندية والفارسية ما قبل الإسلام إلى العربية، مثل كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، شاهدًا صامتًا على الخبرات الحضارية والثقافية للمسلمين غير العرب، واتهامًا ضمنيًّا بالمقابل بالفقر الحضاري والثقافي للعرب قبل الإسلام، ليدخل فيما بعد الجاحظ بكتبه هذه المعركة، مما جعل الأدب يدخل حرب كسر العظام تقودها الشعوبية.
كما مارس النظام العباسي أكبر تصفية في التاريخ الإسلامية، وهي «تصفية عائلة البرامكة» ذات الخلفية الفارسية، واستبدالهم بالعنصر التركي، الذين حكموا العرب فيما بعد، وهي تصفية في كل احتمالاتها دليل مؤكد على أزمة هوية الأمة الإسلامية في التاريخ الإسلامي بين العربي والآخر.