د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
لفت نظري وأنا أقرأ كتاب (أباطيل وأسمار) لشيخنا العلامة محمود محمد شاكر قوله «ليس حسنًا، بَلْ مَعِيبًا أن يتَّخذ كاتبٌ قلمه أداةً لخداع القارئ عن عقله والتغرير به»(1). وقوله «وأيضًا، ليس حسنًا، بَلْ قبيحًا أن يتنفَّخَ كاتبٌ على قُرّاء صحيفته أو مجلته»(2). وقوله «وإذنْ، فليس حسنًا، بل شنيعًا أن ينتصب امرؤٌ له بقيةٌ عقلٍ، فيقوم قائمًا ليخون جَهْرةً وعلانيةً أمانة البيان وأمانة القلم»(3). ونصبه المعطوف ببل إشراك له بالنفي بليس وهذا معاند للمعنى والغرض، فالمعنى نفي الحسن وإثبات العيب، وكذلك إثبات القبح، وإثبات الشناعة، وكان المتوقع العطف: ليس حسنًا بل معيبٌ، ليس حسنًا بل قبيحٌ، ليس حسنًا بل شنيعٌ. والعجيب أن يرد مثل هذا عند ابن مالك، قال عن الضمير «الجائز الخفاء هو الذي يخلفه ظاهر أو مضمر بارز، كقولك: زيدٌ حَسُنَ، ففي حَسُنَ ضميرٌ منويٌّ مرفوعٌ به، وليس خفاؤه واجبًا بل جائزًا»(4)، وقوله عن (منذ ومذ) «وليسا قبل المرفوع مبتدأيْن بل ظرفيْن»(5)، ونصب المعطوف بعد (بل) في هذه النصوص المقتبسة مخالف لما قُرِّر من حكمها النحوي، قال ابن السراج «وتقول: ما زيد قائمًا بل قاعدٌ، لا غير لأن النفي نصبه، ومن أجل النفي شبهت (ما) بليس، فلا يكون بعد التحقيق إلا رفعًا»(6). وقال ابن مالك «وإذا عُطِف على خبر (ما) المنصوب بـ(بل، ولكنْ) لم يجز في المعطوف إلا الرفع، كقولك: ما زيدٌ قائمًا بل قاعدٌ، وما خالدٌ مقيمًا بل ظاعنٌ، وإنما لم يجز ههنا في المعطوف إلا الرفع لأنه بمنزلة الموجَب بـ(إلا)»(7). و(ما) الواردة في نصّ ابن مالك هي الحجازية المحمولة في عملها على (ليس)؛ ولذلك تنطبق القاعدة على (ليس) من باب أولى. وأخذ أبوحيان على ابن مالك عدّه المرفوع معطوفًا، قال «وقوله (والمعطوف على خبرها ببل ولكن) ليس بجيد لأنه لا يسمى ما بعدهما معطوفًا على خبر (ما)؛ إذ ليس (بل ولكن) والحالة هذه حرفي عطف، بل هما حرفا ابتداء لأنهما جاءت بعدهما الجملة؛ ألا ترى أن التقدير: بل هو قاعد، ولكن هو قاعد»(8)، ونبّه الصبان إلى «أن تسمية ما بعد بل ولكن معطوفًا مجاز إذ ليس بمعطوف، وإنما هو خبر مبتدأ مقدر، وبل ولكن حرفا ابتداء»(9)، وهو إن عدّ عطفًا فهو عطف جملة على أخرى، قال أبو حيان عن عطف (قاعد) «ما زيد قائمًا بل قاعدٌ أي بل هو قاعدٌ، وليس من عطف [المفرد] على الخبر، بل من عطف الجمل»(10). ولعله بترك شيء وتقرير غيره يبدل بالجملةلمنفية جملة موجبة (مثبتة).
ومن قبيل هذا الاستعمال قول ابن مالك «فهو مذهول عنه ومرغوب فيه ومطموع فيه ومُعرَض عنه، فلا يتأتّى صوغ المفعول تامًّا بل ناقصًا، أي مفتقرًا إلى حرف الجر»(11). فالمعنى: لا يتأتّى صوغ اسم المفعول تامًّا بل يتأتّى صوغه ناقصًا؛ لأنه أراد نفي التّمام وإثبات النقصان، فلا يكون من قبيل عطف مفرد على مفرد بل من قبيل عطف جملة على جملة.
ولا ينطبق هذا التأويل على استعمال محمود شاكر وابن مالك الواردين في صدر المسألة من غير تكلف ناصب لهما، كأن يقال: ليس حسنًا، بَلْ كان مَعِيبًا. ولذا كان الأولى الرفع وهو المسموع من العرب.
... ... ...
(1) محمود محمد شاكر، أباطيل وأسمار، مكتبة الخانجي، ص35.
(2) شاكر، أباطيل وأسمار، ص53.
(3) شاكر، أباطيل وأسمار، ص71.
(4) ابن مالك، شرح تسهيل الفوائد، 1: 121. جاز لأنه يمكن القول: زيد حسُن خلقُه.
(5) ابن مالك، شرح تسهيل الفوائد، 2: 215.
(6) أبو بكر محمد بن السري بن سهل بن السراج، الأصول في النحو، تحقيق: عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، لبنان/بيروت، 1: 94. وانظر: ابن الوراق، علل النحو، ص161، ابن الأثير، البديع في اللغة العربية، 1: 598. ابن مالك، شرح تسهيل الفوائد، 1: 374، ابن مالك، شرح الكافية الشافية، 1: 433، ابن الناظم، شرح ألفية ابن مالك، ص105، ابن الصايغ، اللمحة في شرح الملحة، 2: 590، أبوحيان، ارتشاف الضرب، 2: 1202، أبوحيان، التذييل والتكميل، 4: 274، ابن هشام، أوضح المسالك، 1: 269، ابن هشام، مغني اللبيب، 1: 616، ابن عقيل، شرح ألفية ابن مالك، 1: 308، ناظر الجيش، تمهيد القواعد، 3: 1210، الشاطبي، المقاصد الشافية، 2: 231، الجوجري، شرح شذور الذهب، 2: 814، الأشموني، شرح ألفية ابن مالك، 1: 259، خالد الأزهري، التصريح على التوضيح، 1: 264، السيوطي، همع الهوامع، 1: 451. الصبان، حاشية الصبان على شرح الأشموني، 1: 267.
(7) ابن مالك، شرح تسهيل الفوائد، 1: 374.
(8) أبو حيان، التذييل والتكميل، 4: 275.
(9) الصبان، حاشية الصبان على شرح الأشموني، 1: 368.
(10) أبوحيان، ارتشاف الضرب، 3: 1202.
(11) ابن مالك، شرح التسهيل 2: 149.