د. إبراهيم بن محمد الشتوي
جماليات الصحراء
في المقالة السابقة وقفت عند مقطع يظهر فيه آداب الضيافة، والأكل والشرب. وفي هذه المقالة سأتناول موقفًا آخر، يبيِّن طريقة أهل الصحراء في إقامة الصلات بين الذكور والإناث. ويظهر هذا في الموقف الذي جمع أجأ بسلمى أول مرة، حين ذهب ليسألها عن الماء. وواضح أن هذه «المسألة» ليست على ظاهرها؛ لا يريد منها السائل الاستسقاء على الحقيقة؛ وإنما يريد أن يجعلها سببا للحديث، والاقتراب، أو معرفة موقف الشخصية التي تحمل الماء. وهو ما جاء في حديث أجأ نفسه حين سرد حكايته:
«أخيرًا قررت لقاءها، ومشيت نحوها، خفق قلبي حذرًا وأنا أقترب، وصلت، فطلبت:
- عطش، وأريد ماء!».
فالشخصية هنا تتخذ من الماء حجة للاقتراب عن وعي وإدراك، وكذلك تفعل الشخصية الأخرى المقابلة (سلمى)، لكنها لا تظهر ذلك في المرة الأولى؛ إذ تشير إلى قربة الماء، وكأنها تحاول أن تتخذ منزلة بين منزلة القبول والرفض، الرفض الذي يدل على البخل، ولؤم الطبع، وهو خُلق ذميم في الصحراء حيث يوصف الإنسان بالكرم، والنجدة، والقبول الذي يعني أنها تمنحه إشارة القبول والاستجابة إلى ما عقد نفسه عليه؛ ولذا فقد أشارت بيدها إلى القربة دون أن تقرب الماء له، أو تبادله أطراف الحديث، وحين أراد أن يبحث عن أسباب الحديث، أو التقارب، كانت لا تزال في موقفها الأول؛ فأشارت إليه أن يعيد القربة إلى مكانها، ولا يأتيها بها، ومنعته من الجلوس بجوارها حين طلبت منه أن يلحق بناقته.
لم يكن في موقفها ما يكشف عما يدور في نفسها، أو يدل على إدراكها ما يريد، إلا حين رغب الاستظلال بالطلحة التي جوارها، وطلبت منه اللحاق بناقته، وكأنها ترغب في أن تأخذ وقتها للتفكير والمراجعة في موقفها منه، وهو ما بدا في اللقاء الثاني حين جاء يطلب الماء، وكأنها قد حسمت أمرها، فبادرته بالحديث الضاحك، وقالت:
- أنت لا تحمل الماء، أنت تشبه الضب.
وتبادلا ضحكات حسمت الموقف، فقربت البعيد، وكشف المسكوت عنه، بدآ بعدها بالحديث والمؤانسة، والتعارف.
هذا «الموتيف»، وهو سؤال الماء، يتكرر في كثير من الأعمال الفنية، سواء الشعرية أو الدرامية، صورة من صور التقرب إلى الفتيات، بما يحمله من مدلولات سبق الحديث عنها في تلك البيئة معروفة من الطرفين كليهما، يتم وفق تواطؤ اجتماعي لا يرى بأسًا ما دام يتوافق مع المواضعات القبلية التي تراعى فيه حدود العرف الاجتماعي حيث يسمح به لفئة دون أخرى. الأمر الذي يعني أن سقيا الماء هنا لا تتصل بالسقيا حقيقة، ولا فعل الخير، بقدر ما هو حبكة تسمح بها أعراف القبيلة بتقرب الفتيان إلى الفتيات تحت «مظلة السقيا» والعطش، يتمكن من خلالها الطرفان من التعارف والتآلف، يتمكن كل واحد منهما من بناء تصوُّر عن الآخر قبل الانتقال إلى المرحلة الأهم، وهي الخطبة، والزواج.
ولكنها لا تسمح به لكل الفئات؛ فالدنو من الفتيات، وسؤال الماء ليس حقًّا مشاعًا لكل الفتيان الذين يلقيهم العطش بين هؤلاء العازبات بأغنامهن، يتلوون بحثًا عن قطرات ماء من قربهن، فمن لا يدانيهن في المكانة الاجتماعية لا يحق لهم ذلك، ولو ماتوا عطشًا، وحكاية مران حين كان راعيًا في القبيلة الأولى تبين ذلك؛ فقد رغب أن يتقرب إلى إحدى الفتيات التي رآها تعزب بأغنامها ناحية الجبل، وأن يطلب الماء كما اعتاد الآخرون أن يفعلوا، إلا أن الإجابة جاءته على غير ما يشتهي أو يتوقع، ويتفق مع الرؤية الاجتماعية السائدة؛ إذ حثت الفتاة التراب في وجهه من عصاها الذي تهش به على غنمها، واختصرت القول الذي ينبئ عن الحكاية كلها:
- أنت؟ أيها العبد!
ولم يقتصر الأمر على هذا الموقف الحاد الذي منعته فيه الماء؛ الأمر الذي يعني أنها تمنعه أيضًا ما قد يتبعه، والسبب هو موقعه الاجتماعي المتمثل بأنه «عبد»، ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل وصل الأمر إلى القبيلة التي يعمل لديها، فربطوه كما يربط الحمار، وضربوه، وحثوا في وجهه ودبره التراب جزاء اجترائه على الحديث إلى بناتهم، وظل مربوطًا حتى آذت رائحته أصدقاءهم الذين يأتون إليهم في الليل للسمر، وقضاء المتعة، ولولا ذلك لما فُكّ وثاقه وأُلحق بالغنم.
وقولها ذلك هو ما يختصر الحكاية، ويثبت المعنى الاجتماعي لطلب الماء. وإذا كان رفض السقيا يعني الرفض القاطع لفتح الحوار بين الطرفين فإن قبول السقيا يعني، في المقابل، أن الطريق مفتوح للحوار، والتعارف، وربما أن الإعجاب متبادل.
وفي خضم هذه الوظيفة الاجتماعية لفعل الماء لا نستطيع أن نغفل عن المعنى الشعري لمعنى الظمأ وطلب الماء ومفرداته؛ ففي الشعر كثيرًا ما نجد الظمأ، والعطش، وطلب السقيا يعني شدة الشوق إلى المحبوب، والرغبة الشديدة في وصاله، فيما يأتي الظمأ دالاً على معنى تخيلي، هذا المعنى هو المعتبر بهذه المواقف، والسياقات الاجتماعية، وهو الذي تركز عليه الصحراء حين تجعله طريقًا للتواصل بين الجنسين، بناء على أن هذا المستسقي في الحقيقة لا يعبر عن ظمأ نحو الماء بقدر ما يعني ظمأ نحو حامله وباذله، وهو ما قام عليه هذا الموتيف.