تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
وبالرغم من أن حجج عبد الرازق تضمنت أخطاء جوهرية دينية وتاريخية ومعلومات غير دقيقة، (13) فإن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» واجه معارضة قوية من أبرز علماء الأزهر، ورُفض في نهاية المطاف من قبل النخبة السياسية المصرية. (14) واستند موقف أنصار عبد الرازق على حماية الدستور لحرية التعبير وليس على الحجج الدينية. وكان هؤلاء الأنصار ينتمون، في المقام الأول، إلى «حزب الأحرار الدستوريين»، الذي استقال وزراؤه من الحكومة احتجاجا على إقالة عبد الرازق، حيث أشاروا إلى أن عبد الرازق كان موظفاً حكومياً، ولا يحق للأزهر طرده.
ومع تأكيد ولائهم للإسلام، رفضوا محاولات خصومهم السياسيين بإعطاء الخلاف صبغة دينية لتحريض الرأي العام ضدهم. (15) وركزوا هجومهم ضد حزب الوفد، الذي تساءل زعيمه سعد زغلول عن مؤهلات عبد الرازق الدينية وبرر العقوبة التي تلقاها عبر الاعتراف بسلطة الأزهر لمعاقبة أي شخص ينتمي إليه يتخلى عن «مبادئ الدين»!! وفي وقت لاحق، اندفعت الصحافة الوفدية، خوفاً من تلف أسس النظام الدستوري واستغلال القصر للحادثة، لمناصرة حرية الفكر في مصر. (16) وأرسل الأزهر الذي شعر بالزهو بعد فرض سلطته، التي أكدت ضمنياً الربط بين الإسلام والدولة، خطاب شكر إلى الملك لحمايته دين وشرف المتحدث باسم الإسلام، أي الأزهر. (17) ولكن في نهاية المطاف فشلت جهود الأزهر لاستعادة الخلافة وتثبيتها في مصر بسبب النتائج السيئة التي حققها المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القاهرة في عام 1926. (18) وواصل عبد الرازق نفسه، بطل حادثة الخلافة، كتابة المقالات للدفاع عن القيم الديمقراطية مثل الانفتاح والتسامح والحرية، وشغل منصب رئيس تحرير «مجلة الرابطة الشرقية»، التي حثت مصر على تعزيز علاقاتها مع العالم العربي والشرق. كما شارك في الحياة السياسية (وهي معلومة تكاد تكون مجهولة في سيرته الذاتية) بدعم حيوي من حزبه «الأحرار الدستوريين»، الذي كان أخوه محمود من أبرز زعمائه. وبصرف النظر عن كونه عضوا في اللجنة التنفيذية للحزب، كان عبد الرازق أيضاً عضواً في البرلمان عن منطقة عابدين في القاهرة، وقام بدور نشط في حماية النظام الدستوري من مؤامرات الملك والحكومة.
وشغل في وقت لاحق، 1947-1949، منصب وزير الأوقاف في حكومتي محمود النقراشي وإبراهيم عبد الهادي. وقبل تعيينه في هذا المنصب (3 مارس 1947)، أصدر الملك مرسوماً ملكياً بالعفو عنه بناء على طلب الأزهر وجرى إلغاء الحكم الصادر ضده عام 1925. وأشار العفو إلى إلغاء حظر توظيف عبد الرازق في وظيفة حكومية، وليس إلى إبطال شهادته العلمية حيث إن لقبه الفخري استمر كمجرد أستاذ. (19) إن حقيقة كون العفو قد صدر عن الأزهر بموافقة الملك يشير إلى الإبقاء على سلطة قانونية في مسائل الدين لهذه المؤسسة اللاهوتية؛ وهو ما يعكس الربط بين الدين وبين السياسة في مصر.
لقد لاحظ الباحثون - بحق – أن مأسسة الخطاب الديمقراطي في مصر بين الحربين العالميتين، وبخاصة في الصحافة، أدى دورا في القضاء على أنماط فاشستية دكتاتورية إيطالية وألمانية في حكومة البلد (20)؛ ولكن تجلى نجاح أقل في محاولة تقليص مكانة الدين في الدولة. وفي نهاية المطاف، جرى تجاهل تركيز عبد الرازق على روحانية الإسلام ورفض جوانبه الدنيوية المزعومة، كما وردت في البعثة النبوية. كما تراجع عبد الرازق نفسه عن هذا الرأي ضمنيا في عام 1925، وصراحةً في عام 1951. (21) ووصفته مجلة الهلال، وهي مجلة ثقافية مرموقة شكلت بين الحربين منبرا مهما للخطاب الديمقراطي في مصر، بأنه شخص «حفر اسمه في قائمة أبطال حرية الفكر في الشرق»؛ ولكنه كتب معبراً عن إحباطه لاستمرار تراجع حرية الفكر، وخاصة حرية الدين واستمرار القمع الأزهري وهي مؤسسة تابعة قانونياً للسلطة التنفيذية. كما استشهد بنضال الشيخ محمد عبده (1849-1905) بدون نجاح في تنفيذ إصلاحات داخل الأزهر. وأشار إلى أن عددا قليلا من زملائه فقط، وفي مقدمتهم محمد حسين هيكل، هبوا للدفاع عنه أثناء حملة الأزهر ضده في عام 1925. ووضع عبد الرازق اللوم عن هذه الإخفاقات على الأداء الضعيف للحكومة، معلنا أن النظام العادل والملتزم هو فقط الذي يمكن أن يمهد الطريق للإصلاح الديني، ويضمن حرية الفكر لجميع المصريين. (22) وحتى تعيينه وزيرا للأوقاف عام 1947 لم يُحقق أيّ تغيير جذري في نطاق الوزارة أو وضع الأزهر. وأوضح عبد الرازق، من البداية، أنه يعتزم التركيز على تحسين أداء الوزارة فقط، ولم يتطرق إلى الجانب المعياري للعلاقة بين الدين وبين الدولة. ويكمن ضمنياً داخل هذا النهج المهني صراعاته مع الملك، الذي طالب، بناء على سلطته الدستورية (البند 153)، بأن يتم نقل إدارة أراضي الأوقاف لتصبح تحت سيطرته. (23)
في الواقع، كانت كتابات عبد الرازق حول مسألة علاقة الدين بالدولة، بعد العاصفة التي أثارها كتابه في عام 1925، تتسم بالحذر. لقد وجه إلى تدخل العلماء في المجال العام انتقادا عدوانيا؛ ولكنه انتقد التدابير الجذرية التي اتخذتها تركيا لفصل الدين قانونيا عن الدولة، وزعم بأن ذلك لم يخدم المصلحة العامة ولم يحترم ماضي تركيا الإسلامي المجيد. وبدلا من ذلك، طالب بفكرة وجود حكومة حازمة تستطيع تقييد المؤسسة الدينية مع ضمان دور للإسلام في حكومة ديمقراطية مدنية، وهي تسوية بين موقفين حادين:
(أ) الموقف الصارم الذي يدعو إلى هيمنة الدين على كل مناحي الحياة؛ و
(ب) موقف الحد الأدنى الذي يعامل الدين باعتباره قانونا أخلاقيا ورمزا معنويا فقط.
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com