د. عبدالواحد الحميد
تزخر الكتب التي تؤرخ لمسيرة الفكر الاقتصادي بالنظريات والكتابات التي تنبأت بحدوث مجاعات وكوارث اقتصادية بسبب تزايد أعداد سكان كوكب الأرض بمعدلات تفوق الزيادة في الموارد الاقتصادية. ومن أشهر النظريات والكتابات في هذا المجال ما كتبه المفكر البريطاني مالثوس الذي عاش في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الذي تنبأ بأنَّ تكالُب البشر على الموارد الاقتصادية المحدودة سوف يؤدي إلى مجاعات وحروب تنتهي بموت أعداد كبيرة من البشر، وعندها يعود التوازن بين عدد البشر وحجم الموارد الاقتصادية التي يعتاشون عليها، فتسير الحياة مرة أخرى على هذا الإيقاع الذي يُراوح بين زيادة فائقة في السكان ثم هلاك أعداد هائلة منهم.
بالطبع، ثبت - كما هو معلوم - بطلان هذه الفكرة المالثوسية، لأن القدرات الإبداعية لدى البشر كانت دائماً تسعفهم بالحلول لمواجهة ندرة الموارد الاقتصادية، فاخترعوا آلات وأساليب مكَّنتهم من زيادة الإنتاج واكتشاف موارد جديدة. أما الحروب الطاحنة التي حدثت في العالم فلم يكن سببها تزايد السكان وإنما الأطماع والطموحات السياسية لبعض البشر، كما أن المجاعات التي مازالت تحدث في العالم هي الأخرى بسبب السياسة في المقام الأول، فالفائض من الإنتاج العالمي من الغذاء يكفي لسد حاجة الجوعى من البشر ويزيد!
ومؤخراً نشرت مجلة «فوربز» الأمريكية الشهيرة تقريراً كتبه باحث اقتصادي جاء فيه أن البشرية مهددة بالانقراض بسبب الجشع الرأسمالي الذي أدى إلى القضاء على الغابات وتحويلها إلى مدن تكتظ بالبشر وبالمصانع وبالملوثات المنبعثة من السيارات والطائرات ومختلف أنواع الآلات، ولذلك فإن كوكب الأرض سيتحول في نهاية المطاف إلى مكان غير قابل للسكنى وسوف ينقرض البشر بسبب هذا التهور الرأسمالي المندفع نحو تحقيق أقصى الأرباح ومُراكمة رؤوس الأموال بصرف النظر عما يترتب على ذلك من تعاسة للبشر!
كاتب التقرير هو «أندرو هانسن»، وقد تناقلت وسائل الإعلام العالمية هذا التقرير الذي يعيد إلى الأذهان نظرية مالثوس وبعض النظريات والكتابات الأكثر حداثة والتي «تبشر» بانقراض البشرية.
حقيقة الأمر أن النظام الرأسمالي مليء بالمثالب، وأن الرأسمالية ارتبطت بالجشع، لكن الجشع بشكل أو بآخر هو طبيعة بشرية وإن كانت الأسماء التي تطلق على «الجشع» كثيرة ومختلفة. مقابل ذلك، فإن الرأسمالية هي التي أطلقت الثورة الصناعية وهي التي اتاحت للمبدعين ابتكار طرق جديدة للإنتاج وهي التي صنعت الوفرة.
الرأسمالية لن تؤدي إلى انقراض البشرية، وهذه التقارير ليست سوى مبالغات! فالمجتمعات الرأسمالية استطاعت أن تطور آليَّة للنقد الذاتي ومؤسسات حكومية وشعبية تحد من جموح النظام الرأسمالي، ولذلك هناك فرق كبير بين رأسمالية اليوم ورأسمالية الأزمنة السابقة التي كانت تفرض على العامل البقاء في المصنع وفي المنجم ست عشرة ساعة كل يوم مقابل أجرٍ زهيد هو فتات موائد رأسماليي ذلك الزمان. لكن المفارقة أن رأسماليي البلدان الفقيرة اليوم أعتى وأكثر جشعاً من رأسماليي البلدان التي وُلِدت فيها الرأسمالية الحديثة لأن البلدان الفقيرة مرتع للفساد وتفتقر إلى آليات التصحيح والرقابة الشعبية.