مات -رحمه الله- بصمت وبلا ضجيج! وهكذا كانت حياة والدي عبدالرحمن بن محسن المحسن يكره الأضواء ويتلمس نجوم السماء في الهزيع الأخير من الليل ليناجي ربه، ويذكره تسبيحاً وتهليلاً وصلاة ودعاء، حتى في الليلة التي قبضت فيه روحه في بيته كانت سبابته تشير إلى السماء راجياً مغفرة ربه وعفوه وواسع رحمته!
كان والدي - رحمه الله - من أواخر الجيل العصامي الذي مرت عليه شهور خوالي من شظف العيش وقلة ذات اليد، تعلم في بلدة الشقة شمال مدينة بريدة القراءة والكتابة، وحصل على شهادة الابتدائية فيها، وكان خطه مميزاً ينافس فيه جيل اليوم جمالاً وإملاءً، ومات -رحمه الله- وهو يحمل في مخبأته قلماً أزرق من نوع خاص كنا كثيراً ما نستعين به عند الحاجة، كما كنا نلوذ به -رحمه الله- عند إجراء العمليات الحسابية التي نتأخر في جمعها وطرحها وضربها وقسمتها!
سافر في شبابه إلى الشرقية وعمل في الكويت وفي منفذ الزرقاء، وحدثنا عن قصص ومواقف له في كشف «المهربين» آنذاك، واستقر بمدينة الدمام وعمل فيها وكوَّن له صداقات من كل مناطق المملكة ومن كل فئاتها الاجتماعية والمهنية، من أهل العارض والمجمعة ومن الزبيريين والهوليين والنواخذة كذلك! وحَوَّل غرفته مع بعض زملائه إلى «نزل» صغير يستقبل فيه القادمين الجدد ممن يبحثون عن فرص الحياة في مدينة الأحلام! زرنا معه ذات مرة مدينة الدمام وأمضينا فيها أياماً كان فيها - رحمه الله - المرشد السياحي للعائلة وبتفاصيل دقيقة وحكايات عن أهلها وشوارعها ومبانيها ربما يعجز عن الإحاطة بذلك بعض أبنائها في أيامنا هذه.
عاد للقصيم، وعمل بإمارة المنطقة ردحاً من الزمن وفي أكثر من قسم إداري، تفاجأتُ بصديق له يعرفه ولا نعرفه سمع بوفاته فدخل علينا في مغسلة الموتى بجامع الونيان جنوب بريدة ليقف على رأسه ويقبله ويدعو له بكل تأثر ويذكر بأنه كان بشوشاً وممازحاً لهم أيام «إمارة القصيم».
كما زارنا ذات مرة سائق في إحدى اللجان الميدانية التي كانت تفصل بين الخصوم في الأراضي على حدود منطقة القصيم وكان والدي - رحمه الله - عضواً شبه دائم في هذه اللجان، فتحدث عن نظافة يده واقتصار والدي - رحمه الله - على أيام الانتداب الخاصة به بلا زيادة بحثاً عن لقمة العيش الحلال له ولأفراد أسرته.
وهكذا كان طيلة حياته، فحين افتتح - رحمه الله - أول مكتب عقاري له في حي الفايزية بمدينة بريدة قرابة عام 1400هـ أيام بدايات النهضة العمرانية، تركه بعد مدة لم تطل رغم نجاحه وحاجته، حيث أدرك أن «سعى العقار» ربما يشوبه شائبة التدليس وإخفاء ما لا يمكن إخفاؤه للمشتري وفقاً لرؤيته في الشفافية والإفصاح خلال عملية البيع والشراء.
كان - رحمه الله - من أوائل من نادى بالتقاعد المبكر، فبعد عمله في إمارة منطقة القصيم، انتقل للعمل في مركز الشقة أو إمارة الشقة كما كانت تسمى آنذاك، فعاد لموطنه الأول ومحل ميلاده ليترك قبل تقاعده المبكر أبرز بصمة في حياته ويرسم أجمل حكاية له في خدمة «الضعوف والمساكين» كما كان يردد - رحمه الله، وكنت أزوره أحياناًً هناك، فأجده مع رئيس مركز الشقة أو أميرها كما كان يلقب في تلك الفترة الشيخ محمد القصير -رحمه الله- وهم في شغل لا ينقطع وحديث لا يمل عن خدمة الناس وقضاء حوائجهم.
عرفه أصدقاؤه بالكرم والجود وكانت له ألقاب في ذلك كنا نسمعها ونحن صغار عند زيارتهم له، كان لا يتردد في شراء «كرتون الطماطم البلدي وذبح الطيب من لحم الضأن واختيار أعلى الكتف والقويصرة من لحم الحاشي» لضيوفه، وكان يقوم بذلك بنفسه حتى أعياه التعب فكانت مهمة التفويض لنا شاقة في الشراء للضيوف حيث الإجابة على تساؤلاته -رحمه الله- أشبه بتحقيق طويل وتفاصيل دقيقة، ولربما استعان بعضنا بخبرات بعض عند الحاجة لذلك قبل تسليم المطلوب للوالد - رحمه الله.
وفقه الله سبحانه وتعالى أن يكون قلبه معلقاً بالمسجد صلاةً وقراءةً للقرآن وتفقداً لاحتياجاته، أسهم في بناء بعض المساجد في الأحياء الجديدة عبر «صدقة السر» الذي ربما خفيت حتى على بعض أبنائه، كما عرفه الأقربون أيضاً بأنه واصل للرحم، متفقد لأحوالهم، ومتواصل مع أصدقائه وجيرانه في الأحياء السابقة، فكان يفاجئهم بزيارات بعد صلاة العصر وعند الباب من غير أن يكلفهم فنجان قهوة أو كوب ماء!
عاد من العمرة أخيراً، وأوصى أحدنا بمبلغ عشرة آلاف ريال لمريض يحتاج إلى علاج، وقدم صدقته لرمضان على غير العادة، وكنت ليلة وفاته أطارحه حكايات من «غرب» و»شرق» أيام زمان وما كانوا عليه من الأمانة والصدق والقرب إلى الله، وكان مصغياً لحديثي معه فلما انتهيت ما زاد على تذكيرنا بقوله تعالى: {تِلْكَ أمة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وكأنها إشارات سماوية على قرب وفاته - رحمه الله - لم ندرك حقيقتها وكنهها إلا مع آذان فجر يوم الاثنين الثاني عشر من شهر شعبان لعام 1438 هـ لتخرج روحه الطاهرة بكل يسر وسهولة.
رحم الله والدي وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.
د. محسن بن عبدالرحمن المحسن - أستاذ أصول التربية بجامعة القصيم