د.عبد الرحمن الحبيب
إذا قيل لك إنك خسرت من أرباحك عشرة آلاف ريال مقارنة بالعام الماضي، أو قيل إنك ربحت أربعين ألفاً مقابل خمسين ألفاً العام الماضي.. أيهما أشد تأثيراً عليك؟ الأولى، رغم أنّ النتيجة واحدة.. لأنّ التعبير اختلف، والناس تكره الشعور بالخسارة أضعاف حبها للربح حسب نظرية الاحتمال.
عندما تريد اتخاذ قرار استثماري في بنك وأنت محتار، فإنّ اختلاف صيغة طرح مسؤول البنك تجعل تأثرك يختلف حتى لو كانت النتيجة واحدة، لأننا في بداية استقبال الخبر نتأثر عاطفياً أكثر منه عقلانياً، خاصة إذا كان الطرح فيه ما يقلقنا، ومن ثم قد نختار القرار الخطأ.
نظرية الاحتمال التي صاغها كانيمان (حاصل على جائزة نوبل) وزميله تفرسيكي بعد تجارب تطبيقية، تقول إنه في الظروف غير اليقينية يتخذ الناس قرارات قد لا تكون عقلانية متأثرين بطريقة عرض الخيار حتى لو كانت المخرجات واحدة؛ بل قد نتخذ قراراً ضاراً بنا نتيجة طريقة العرض لأننا نسعى لتجنب ما يخيفنا أضعاف ما نسعى للحصول على ما يسعدنا..
هذا ما نشاهده في صعود شعبية دعاة أقصى اليمين للخروج من الاتحاد الأوربي، مركزين على لغة التخويف من أضرار الاتحاد، زاعمين أنه سبب الإرهاب والمشاكل الأمنية والبطالة ومتجاهلين لغة المنافع. وقبله لدينا، صعود شعبية دعاة «الصحوة» في الثمانينات والتسعينات مركزين على الترهيب والتخويف بدلاً من الترغيب.. الرهبة أقوى من الرغبة!
وإذا كانت طريقة العرض التخويفية تجذب انتباه الناس فإنها ليست مستدامة.. ففي تجارب غاداريان عن سلوك الناخبين إزاء الحملات الانتخابية، وجدت أنّ الناخبين يثقون في النهاية لمن يقدم حلولاً وليس لمن يُخوِّفهم.. «الأشخاص سيبدؤون في عدم الاكتراث بالقلق بعد فترة، إذا لم تخبرهم كيف ستعالج المشكلة». مثلاً، آخر مناظرة فرنسية بين لوبان وماكرون، ركزت لوبان على التحذير من خطورة أفكار ماكرون أكثر من علاجها للمشاكل، لذا كانت نتيجة المناظرة ضدها حسب استطلاع للرأي، فضلاً عن خسارتها الفادحة في التصويت..
ورغم ذلك فإنّ الانطباع الأولي الذي قد يؤدي لاتخاذ القرار يتأثر كثيراً بعوامل شكلية سياقية تشتت التفكير العقلاني، وأهمها عامل انحياز القصة وعامل الخوف. وإذا اجتمعت القصة مع الخوف فإنّ التأثير يتضاعف، حيث تستطيع القصة تمرير انحرافها عن الواقع تحت مظلة القلق. مثلما تعتمد الرواية الطائفية الحالية على الأحداث السياسية التاريخية والراهنة المضطربة في قالب قصصي أقرب للخيال منه للواقع..
لماذا تؤثر القصة أكثر من المعلومات؟ القصة تشكل علاقة مع الآخرين وفي كيفية شعورهم، بينما الأرقام والمعلومات جافة بلا عاطفة. الناس ينجذبون للقصة الجيدة لأنها بسهولة ترسخ في الذهن، بينما الأرقام تتطلب جهداً عقلياً. الدماغ البشري - حسب نظرية الذهن - يبدأ عادة باستخدام القصص لتفسير الأحداث والعالم والأشياء من حولنا قبل أن يبدأ في التفكير العقلي. لذا الأساطير بدأت قبل الفلسفة والعلم.
فقصة فلان التاجر الذي تعرّض للقتل بإطلاق النار عليه من لصوص اقتحموا منزله ليلاً وسرقوا مجوهرات، ليست كمعلومة إخبارية لشخص قُتل نتيجة حادث سطو، رغم أنّ الحدث واحد.. وقصة موت فرد متأثراً بجراحه اغتاله إرهابي في قارعة الطريق بالمدينة الفلانية أكثر إثارة للانتباه من إحصائية سنوية عن موت المئات نتيجة حوادث الطرق في ذات المدينة، رغم أنّ الثانية أكثر فداحة بأضعاف من الأولى. فالخبر الأول أكثر إثارة لتفكيرنا العاطفي من الثاني حسب نظرية الذهن، رغم أنّ الخبر الثاني أهم كثيراً حسب نظرية المعلومات؛ ورغم أننا ندرك أنّ ثمة ضحايا كثر في الخبر الثاني إلا أننا لا نرسم لهم صورة في أذهاننا كما تفعل القصة في الخبر الأول..
الحدث في الإعلام هو قتل شخص بإطلاق النار عليه (قصة)، وليس عدد ضحايا الحوادث (إحصاء). تقول إيميلي ثورسن، أستاذة السياسة بكلية بوسطن: «الأشخاص ليسوا جيدين للغاية في تقدير المخاطر، فهم يخافون من فيروس إيبولا أكثر من خوفهم من أشياء قد تقتلهم بالفعل مثل الكحوليات، فالأشياء تبدو أكثر خطورة حينما تكون أكثر وضوحاً».
لذا إن رغبت بإقناع الناس بفكرة تسويقية لا تركز على المنافع، بل ركز على تجنب المضار، حسب نظرية الاحتمال التي أثرت كثيراً في فن التسويق والإعلانات.. فلو أردت أن تعلن لمنتجك، فأفضل طريقة لتشجيع الزبائن هو بإخبارهم مقدار ما يفقدونه من عدم استخدامهم لمنتجك أكثر من إخبارهم بمقدار ما يجنونه. أشهر مثال تسويقي هو المحلات التي تقدم «تخفيضات هائلة» على بضائعها تحت شعار «لا تفوِّت الفرصة!».. الناس تتكالب عليها خشية فقدها للفرصة الذهبية المزعومة، وليس لمقدار ما تجنيه فهو في المحصلة حفنة من الدولارات.
الإعلام يدرك أنّ الحقائق التقريرية لا تغري القراء مثلما تفعل قصص حول هذه الحقائق مع الصور حتى بدون أرقام. لذا تقل التقارير أمام قصة الخبر، وتقل المقالات التحليلية أمام مقالات الرأي وتقل هذه الأخيرة أمام مقالات الهذر.. وأكثر عامل يجعل الخرافة أقوى من الحقيقة هو الشعور بالقلق لأنه لا يجعلنا نفكر بعقلانية بل بغريزة بقائية متأصلة في ذاكرتنا الجينية..