د. حسن بن فهد الهويمل
لكل زمان قواصمه، وعواصمه، مثلما أن لكل زمان دولتهُ، ورجاله.
- فما القواصم الأخطر؟
- وما العواصم الأجدى؟
أما القواصم:-
- فالخطأ في إنزال الأحكام على الأحداث.
- وفي عدم توقي الأعراض الجانبية لبعض القرارات.
- وفي ضعف إدارة الاختلاف.
تلك القواصم وغيرها محتملة الوقوع، غير أنها لمَّا تبلغ مستوى الظواهر. ولو أن أحدًا دقق النظر فيما يدور من جدل عقيم، وفشل ذريع، وتعثر متكرر، لوجد أن بعض ذلك ناتج تلك القواصم.
ولو أن أحدًا تحسس عن حراك المشاهد، لوجد أن قلة منَّا قد تستحضر تلك العواصم.
في مشاهدنا فقهاء لا يخطئون في الأحكام، لمعرفتهم مناطاتها، وقواعد أصولها.
ولكن البعض منهم قد لا يستحضر ضوابط الإنزال على الحدث.
ولربما يكون الخليفة الراشد [أبو حفص عمر] أولَ من أتقن تلك السمة، لرجاحة عقله، وعمق فهمه، وقوته في الحق.
تبدت عبقرياته في تمنعه عن إعطاء {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} من الزكاة، لأن هذا الحق مرتبط بقوتهم، وضعف المسلمين. ولما قوي جانب المسلمين، طبق المقاصد.
وفي هذا تتجلّى معرفة الفقيه بدقة إنزال الحكم على الحدث. والحكم يدور مع العلة وجودًا، وعدمًا.
و[ابن الخطاب] كذلك بارع، ودقيق في عدم إنزال حكم السرقة في [عام الرمادة] فالآخِذُ يدفعُ الضرر، ولا يستزيد.
وفعل الفاروق ليس إلغاءً للحكم، كما يدعي المارقون، ولكنه رفع له، لأن مقتضى الإنزال في ظل هذه الظروف مخالف للمقاصد الشرعية.
وللعلمانيين، والمتعالمين جَلَبَةٌ حول ما فعله [الفاروق]، ظنًا منهم أن التشريع قابلٌ للتعطيل. وقد توسلوا بـ[أسباب النزول]، وبـ[التاريخانية].
وفات المنافقين، ومرضى القلوب، والمرجفين قولُه تعالى:- {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، وقولُه:- {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ}.
لقد أدى سوء الفهم، وكثرة الحفظ، وقلة التفقة، والاهتياجات العاطفية، وخطأ الإنزال إلى تشرذم الأمة، ووفرة الأدمغة المفخخة.
والبعض من هؤلاء يخلط بين حكم النص البرهاني، وحكم ما سواه. بحيث يعطيها جميعًا قطعية الحكم. كما لا يفرق بين حكم بالاجتهاد، وحكم بالنص القطعي الدلالة، والثبوت، وحكم لا يمكن احتماله مع وجود مندوحة عنه.
فـ[المحرمية] و[القوامة] و[الحجاب] للمرأة - على سبيل المثال - عالجها الفقهاء، واختلفوا في حدودها، ومشمولاتها. وجاءت رؤيتهم في زمن يستدعي الأحكام التي توصلوا إليها في زمانهم.
وعلى فقهاء المؤسسات كـ[المجمع الفقهي]، و[هيئة كبار العلماء] أن يعيدوا النظر في كافة الأحكام التي استنبطها سلفهم، بوصفها ناتج اجتهاد، أو تأويل للنص، بحيث تلائم الظروف القائمة.
أنا لا أريد تمييع الأحكام، ولا تخطئة فقهاء السلف، فالإسلام شرعة، ومنهاجٌ. والنص التشريعي يراوح بين القطعيات: الثبوتية، والدلالية، واحتمالياتها.
وتغيّر الأحوال يتطلب القدرة، والمهارة في إعادة قراءة النص، والبحث عن دلالات غائبة، كشفت عنها النوازل.
على أن قرارات [ولي الأمر] التوفيقية متى اسْتُقِيَت من مقاصد الشريعة، تأخذ قوتها من وجوب السمع، والطاعة.
و[ولي الأمر] حين تحزبه النوازل، ويربكه التنازع، يعود إلى أهل الذكر، ليفك الاختناقات، ويحقق مقولة:- [الإسلام صالح لكل زمان، ومكان].
وليس من الحصافة التجمد، والشك بكل من يحاول تجديد أمر الدين. فالرسول صلى الله عليه وسلم بشّر بالمجددين. وليس التجديد مسايرة الأهواء، والشهوات. التجديد له ضوابطه الشرعية.
الأمة تواجه نوازل: سياسية، واقتصادية، واجتماعية. ولابد من إنشاء مؤسسات فقهية، تتلقى هذه النوازل، وتستنبط لها من نصوص الشريعة، ومصادر التشريع أحكامًا تناسبها، وتيسر أمر الناس، ولا تُلجئهم إلى المخالفة، وفرض واقعٍ مخالفٍ يصعب الخلاص منه. وكل ذلك داخل في حسن إنزال الأحكام على الوقوعات.
أما القاصمة الثانية فمتعلقةٌ بقرارات المؤسسات: التشريعية، والتنفيذية. فقد تتخذ الدولة قرارًا مصيريًا، تنظر فيه إلى جانب واحد، وهو العائد، دون النظر إلى ما يترتب عليه من أعراض جانبية.
فقرار إيقاف [زراعة القمح] - على سبيل المثال - نظر فيه المسؤول إلى مشكلة المياه، وحسب. وهي نظرة صائبة، لا غبار عليها. ولكنه ربما لم ينظر إلى ما يترتب على ذلك من خسائر، تمس أصحاب المشاريع الكبيرة الذين استوردوا الأجهزة بمئات الملايين، وخسروا على البنية التحتية مثل ذلك وتمس مَنْ دونهم من الأفراد الذين يُعدُّون بالآلاف، ويعولون أسرًا تعيش على دخول القمح.
لقد تحولت آلاف الأسر من أسر عائلة، إلى أسر معولة، حَمَّلت الدولة مسؤولية توفير فرص عمل للعاطلين، قد تُحوِّل الفرص إلى بطالة مقنعة.
فقرار كهذا قرار مصيري، لجأت إليه الدولة تفاديًا لنضوب المياه الجوفية.
ولما تزل تغالب إشكالية ثانية، وهي [زراعة الأعلاف] التي لجأ إليها المزارعون، وضاعفوا بذلك استغلال المياه الجوفية. بل تكاد [زراعة الأعلاف] تفوق باستهلاكها أضعاف ما يستهلكه القمح.
ذلك مثل. والمواطن يدرك بين الحين، والآخر أعراضًا جانبية لبعض القرارات. والدولة تجسُّ نبض [الشارع العام]، لترتب على ضوئه التعديلات.
ويبدو لي أن [شُعَب الخبراء]، و[المستشارين]، و[المجالس النيابية]، كـ[الشورى]، و[مجالس] المناطق، و[البلديات] التي تزوّد الدولة بالتوصيات، قد لا تضع في حساباتها الأعراض الجانبية، ومن ثم ينشأ من المشاكل ما لا تتوقعه الدولة. وقد تتخذ قرارًا بالعودة إلى ما كانت عليه الأحوال، لأن شعارها رفاهية المواطن.
ولك أن تقول فوق ذلك عن [القاصمة الثالثة] المتمثلة بعدم التوفيق في [إدارة الاختلاف].
فالاختلاف حتم، ومن تصور حسمه، رَجَمَ بالغيب، وباء بالفشل.
[الخطيئة]، و[الاختلاف]، من سنن الله الكونية التي لا تتبدل، ولا تتحول. فعن الخطأ جاء:- [كل الناس خطاء]، وعن الاختلاف جاء:- [وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ].
فـ[الخطيئة] دنس تزيله التوبة، والاستغفار. ويخفف من حِدَّتِه الستر، على حد:- [إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا].
و[الاختلاف] إكسير الحياة. ويُهَوِّن من أثره حسن إدارته. فالإشكالية ليست فيه. ولكنها في إدارته.
وكثيرٌ من المتصدرين للشأن العام، لا يحسنون الإدارة، فالمتكلم في الشأن العام قد يحتكر الحقيقة، ويقصي الآخر، ويكرس [الأنوية] والأثرة، ويرى أن قوله صدق محض، وقول خصمه كذب محض.
وهذا من الأثرة، والإعجاب بالنفس، والتسامي فوق النقد، والمساءلة.
حُسْنُ الإدارة يستدعي مساءلة الذات ومراجعة النتائج، والسعي للإمتاع، والإقناع، والاحتواء. فإن لم يكن فلا أقل من التعاذر، والتعايش. وبخاصة إذا كان الاختلاف من اختلاف التنوع.