إبراهيم عبدالله العمار
هل سبق لك أن نظرت لرسمة طفل؟ انظر لها. ترى صورة الشمس بالألوان، ترى الطفل قد رسم الأفق، الجبل، شجرة. هذه أشياء رآها الطفل، ومن ثم نقلها للكراسة. يتطور الإنسان من رسم الأشياء التي يراها إلى رسم الأشياء التي يعرفها. الطفل يرسم بلا اكتراث للمسافات بين الأشياء ومواقعها، ويتطور إلى أن يرسم ويصور أشياء على خرائط، مثل مجرات كاملة تُمثَّل صورياً. الخريطة ليست مجرد وسط يخزن وينقل المعلومات، بل هي تمثل نوعاً معيناً من الرؤية.. من التفكير. لما انتشرت الخرائط رافق هذا شيء آخر: نشر هذا نظرة صانع الخريطة. طريقته في التفكير في العالم وتصوّره ورؤيته. كما يفيدنا الكاتب العلمي نيكولاس كار فإنه كلما زاد استخدام الناس للخرائط تغيرت نظرتهم للحقيقة لتشابه تمثيل الخريطة لها. لم تعد الخريطة مجرد تمثيل للواقع، صار الواقع يحاكي الخريطة.
والذي فعلته الخريطة بالمساحة فعلته الساعة للوقت. إن الناس -لمعظم التاريخ البشري- شعروا بالوقت، رأوه أنه تيار متواصل دوري، لم يكن هناك حاجة لتقطيع اليوم إلى قطع صغيرة وحسابه بدقة. بالنسبة لمعظم الناس فإن حركة الشمس والقمر والنجوم هي الساعة الوحيدة التي يحتاجونها، كما يقول المؤرخ الفرنسي جاك ليجوف: «إن الحياة لطالما سيطرت عليها الأنماط الزمنية الزراعية، خالية من العجلة، مرتاحة من هوس الإتقان، ولا مبالية بجنون الإنتاجية» (كما هو عند الغرب اليوم).
ظهرت الساعة قبل مئات السنين، كانت تتخذها القرى والمدن (مثل أبراج الساعات)، ثم مع تقدم التقنية صغرت وصارت المرء يقدر أن يجعلها في غرفته أو حتى يحملها في جيبه، وهذا كان له تأثير كبير. غيّرت الساعة نظرتنا لأنفسنا، ومثل الخريطة فقد غيرت طريقة تفكيرنا. الساعة أعادت تعريف الوقت على أنه سلسلة من الوحدات متساوية الفترة وبالتالي بدأ عقلنا يهتم أكثر بالعمل الذهني المنهجي القائم على التقسيم والقياس. بدأنا نرى في كل شيء الأجزاء التي تكوّن الكل ومن ثم بدأنا نرى الأجزاء التي تكون الأجزاء. صار تفكيرنا فلسفياً من ناحية تركيزه على إدراك وإبصار الأنماط التجريدية التي تتواجد خلف مظاهر الأشياء الظاهرة للعالم المادي المحسوس. لا تستغرب، فيرى مؤرخون أن الساعة لعبت دوراً أساسياً في إخراج البشر من العصور الوسطى إلى عصر النهضة ومن ثم عصر التنوير.
تنتشر تقنيات (بسيطة فيما يبدو) كالساعة والخريطة ولا يدرك الناس تأثيرها إلا بعد مئات السنين. يا ترى، ماذا سيكون تأثير الانترنت لو نظرنا للخلف من 500 سنة في المستقبل؟