د. عبدالواحد الحميد
مَن يزُر كوريا الجنوبية، ولا يذهب إلى (المنطقة منزوعة السلاح) بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، فلا يكون قد زار كوريا حقًّا. وقد حرصتُ في الأسبوع الماضي بعد حضور معرض (طرق التجارة في الجزيرة العربية - روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور) المقام حاليًا في سيئول عاصمة كوريا الجنوبية على زيارة المنطقة منزوعة السلاح التي تختصر تاريخ الحرب المريرة التي قرأنا عنها كثيرًا في الكتب والمراجع، وهي الحرب التي وقعت بين كل من كوريا الشمالية المدعومة من الصين والاتحاد السوفييتي السابق وكوريا الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة والدول المتحالفة، وذلك في مطلع الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي.
قرأتُ كل ما استطعت قراءته من معلومات عن فترة الحرب الكورية، بما في ذلك مذكرات الرئيس الكوري الأسبق لي ميونج باك التي نشرها في كتابه الذي يحمل عنوان (الطريق الوعر)، الذي لم يكن عن الحرب ذاتها، وإنما عن تجربته كمواطن كوري من أسرة فقيرة جدًّا، نشأ في الفترة التاريخية التي أعقبت الحرب الكورية، وشهد نهوض كوريا من بلد فقير ومتخلف إلى واحد من أهم البلدان على الساحة الاقتصادية العالمية.
خرجت من سيئول صباحًا في يوم غائم جميل باتجاه المنطقة معزولة السلاح، وبعد رحلة بالسيارة، استغرقت أكثر من ساعة بقليل، وصلت إلى المنطقة. كان ذلك في اليوم نفسه الذي جرت فيه الانتخابات الرئاسية، وكانت العاصمة قد شهدت مسيرات ومظاهرات؛ فبدت مشغولة بهموم الحالة السياسية العامة التي نجمت عن إقالة الرئيسة السابقة (بارك غوين هاي) بسبب تهم الفساد الموجهة إليها، فضلاً عن الجو الثقيل المخيم على البلاد بسبب حالة الاحتقان والتوتر المتصاعد بين كوريا الشمالية التي تجري تجارب صاروخية، وكوريا الجنوبية التي تلقت مزيدًا من المساعدات الأمريكية.
ومع ذلك، كان المكان يغص بالسياح، وهم في غالبيتهم كوريون، جاؤوا يسترجعون تاريخ تلك البقعة الدامية. تجولت في أرجاء المكان، وصعدت إلى حيث نصبت المناظير المقربة المصوبة باتجاه كوريا الشمالية. كان المنظر محزنًا للغاية؛ فأنت ترى بلدًا قد شُطر إلى جزءَيْن، ليس بسبب رغبة شعبهما، وإنما بسبب النزاعات التي نشبت بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتدخلات الدول الكبرى.
نزلت من المطلة، وعبرت بقايا الجسر الذي تم تدميره في الحرب، وهناك شاهدت الآثار الفظيعة للحرب الكورية، ليس فقط من خلال الصور والمجسمات، ولكن أيضًا من خلال ركام الحديد الصدئ هنا وهناك، وعربة القطار التي اخترقها الرصاص، وقواعد الجسر المتهدم، وسكة الحديد القديمة.
أمضيتُ في المكان نحو ثلاث ساعات مستغرقًا في تأملاتي عن بشاعة الحروب التي ما زالت تسحق البشر في كل مكان منذ فجر التاريخ ولا تتوقف! وفي طريق العودة من المنطقة منزوعة السلاح إلى الفندق في سيئول بحثت في (جوجل) فوجدت أن عدد القتلى والجرحى والمفقودين من الجنود في الحرب الكورية بلغ أكثر من مليونَي إنسان، إضافة إلى أعداد لا يعلمها إلا الله من المدنيين.
رغم ذلك، نهضت كوريا الجنوبية من الحرب، وتحولت من دولة فقيرة متخلفة إلى دولة مزدهرة ناهضة، بينما ما زالت كوريا الشمالية مشغولة بالاستعداد الأبدي لحرب ترى أنها قادمة في يوم ما، بينما يتضور شعبها جوعًا.