«الجزيرة» - لندن:
اختتم في العاصمة لندن مؤتمر «التسامح في الإسلام» الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في جامعة لندن، بحضور قيادات كبيرة من الجالية الإسلامية في أوروبا، بينهم علماء ودعاة ومفكرون وعدد من السياسيين والمفكرين الغربيين من داخل المملكة المتحدة وخارجها.
وفي افتتاح المؤتمر تحدث البروفيسور محمد عبدالحليم في جامعة لندن رئيس كرسي الملك فهد للدراسات الإفريقية والشرق أوسطية عضو مجلس أمناء أكاديمية الملك فهد في لندن، ورحب بالمشاركين مؤكدًا أن استضافة الجامعة لهذا المؤتمر بالمشاركة مع رابطة العالم الإسلامي تأتي للتشديد على سماحة الإسلام وقيم الرحمة والعدل التي جاء بها.
وعبر د. عبدالحليم عن شكره لرابطة العالم الإسلامي على عقدها هذا المؤتمر، متمنيًا أن ترتقي مخرجاته لطموح الجاليات المسلمة بشكل عام، والجالية المسلمة في بريطانيا على وجه الخصوص.
بعد ذلك ألقى معالي الأمين العام للرابطة الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى كلمة، أكد فيها حرص الرابطة على إشاعة ثقافة السلام والتسامح والحوار البناء للتفاهم بين المكونات المختلفة، مشيرًا إلى المنهج الوسطي المعتدل الذي تنتهجه، قائلاً إن التسامح من قيم الإسلام الرفيعة التي حفلت بها العديد من النصوص الشرعية، كما حفلت بها مشاهد السيرة النبوية باعتبارها في طليعة القيم الأخلاقية التي حث عليها الإسلام في مجالات الحياة كافة.
وأكد د. العيسى أن تلك القيم السامية تتعارض مع منهج التطرف القائم على التشدد والتحريض والمواجهة، وحمل النصوص على تأويلات باطلة سعى من خلالها لتحريف معانيها الصحيحة، شارحًا بأن توصيف التطرف يوحي غالبًا بطبيعة سلوكية منحرفة؛ فالمتطرف غير متسامح وسريع التأثر والانجرار، يتبرمج سريعًا بالعقل الجمعي الذي أثر فيه سلبًا، فاقد الطبيعة المعتدلة؛ فهو على أحد طرفي النقيض. وما دام كذلك فهو أبعد ما يكون عن التسامح الذي يمثل منطقة الاعتدال في السلوك، وإذا كان كذلك كان مجافيًا للحكمة والصواب. وهذه الطبيعة تفرز سلوك المواجهة والحدة.
وأضاف بأن المتابع لن يجد التطرف مغلبًا منطق الصفح والعفو أو التماس الأعذار وحسن الظن، ولن يجده حسن الخلق عفيف اللسان، ولا قابلاً بالمسالمة والمصالحة والتنازل لتحقيق المصلحة الأكبر التي لا ينظر إليها فقهه الضيق.
وزاد العيسى في كلمته بأن المتطرف لا يعرف فقه الأولويات والموازنات (فقه الترجيح بين المصالح والمفاسد)، ولا فقه مقاصد الشرعية وتغير الفتاوى والأحكام عند الاقتضاء والإمكان بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والنيات والأشخاص، وستجده مكابرًا للأدلة والحقائق ومكبرًا للصغائر منتهكًا للكبائر، وفي طليعتها إثارة الفرقة والفتنة فضلاً عن التكفير واستباحة الدماء، كما أنه أبعد ما يكون عن فقه الائتلاف والتسديد والمقاربة، وأبعد ما يكون كذلك عن الرفق والتيسير على الناس والتبشير بالخير.
وأشار معاليه إلى أن كل هذه المعاني العظيمة لن نجدها إلا في الوعي الشرعي، هذا الوعي الذي هذب السلوك، وولد الحكمة، وأنتج العالم العالمي في سياق عالمية دينه، مؤكدًا أن غياب المادة الوقائية والمسوحات الاستطلاعية المتقدمة للحركات محل الملاحظة مهم للغاية في تلافي استفحالها، لكن لنسأل أنفسنا ماذا يعدنا القادم مع الإرهاب.
وقال معاليه إن القادم - والعلم عند الله - رهن بالهزيمة الفكرية للإرهاب، فالكيان الإرهابي قام على أيديولوجية متطرفة، وليس على كيان عسكري ولا قوة سياسية غالبة، واستطاع أن يتمدد في جميع دول العالم وأن يستقطب أتباعًا من مائة دولة ودولة، وأن يؤثر في بعض العقول مستغلاً كل فرصة متاحة له.
وتابع معاليه: لن تجد خطاب التطرف يذكرك بقول الله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ولا بقول الله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، ولا بقول الله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}، ولن تجده يذكرك بقول الله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، ولا بقول الله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، ولا بقوله تعالى {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، ولا بقوله سبحانه {فاصفح الصفح الجميل}، ولا بقوله تعالى {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}، ولا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا ولا تنفِّروا»، ولا بقوله: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». لن تجد هذه النصوص في أحاديثه؛ لكون منهجه الفاسد قد سلك مسلكًا آخر غير هديها المتسامح الحكيم، وله مع هذه النصوص مكابرات ضالة تشهد بمستوى وقوع التطرف في مستنقع الجهل والضلال والحماسة الهوجاء.
بعد ذلك شرع المشاركون من أهل العلم والدعوة من قادة العمل العلمائي والدعوي والفكري في عدد من الدول الإسلامية من حضور المؤتمر وقيادات المراكز والمكاتب الإسلامية في المملكة المتحدة في مناقشة محاور المؤتمر. وقد انتهى المؤتمرون في بيانهم الختامي إلى الإشادة بما قدمه المسلمون في المملكة المتحدة من جهود في التعريف بحقيقة الإسلام، وتقدير إسهاماتهم الحضارية وتواصلهم الإيجابي مع الجميع.
ودعا البيان إلى نشر ثقافة استيعاب الآخرين من خلال الإيمان بسنة الاختلاف بين الناس، مع تعزيز مفاهيم التواصل الإيجابي بين أتباع الأديان والثقافات لخدمة العمل الإنساني وصيانة كرامة الإنسان وحفظ حقوقه.
كما دعا البيان المكونات المختلفة للمجتمع ببذل الجهود الحثيثة لتعزيز المواطنة، وتعميق الحوار البناء بينهم، والعمل على استدامة الروح الإيجابية التي كان عليها المسلمون طوال القرون الماضية في حسن التعامل مع الآخرين والتعايش معهم، وترسيخ القيم الإنسانية المشتركة، والتضامن في حماية المصالح الوطنية العامة، وتذليل الصعوبات التي تعوق التعايش السعيد الآمن.
وطالب البيان باحترام الشعارات والرموز والتقاليد والأعراف والثقافات الوطنية، ومنها التحية والنشيد والسلام والبروتوكول الوطني، وفق أولويات فقه المواطنة بعامة وفقه الجاليات المسلمة في البلدان غير الإسلامية بخاصة، وعلى التسليم بما قد يراه البعض من وجهة نظره من تحفظ على بعض سياقاتها، داعيًا المسلم إلى أن: «يعمل في هذا بقاعدة الترتيب بين المصالح والمفاسد في إطار قاعدة الأولويات والموازنات، فقد يترتب على الممانعة ضرر أعظم من أصل الحكم الذي يراه، ما دام لا ينقل المسلم عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين، ولتأليف القلوب، ودفع الشكوك وتبعات الممانعة ذات الصلة بالولاء الوطني اعتبارات مهمة، لها وزنها في تراتيب أحكام الشريعة. وإذا عمد المسلم إلى ارتكاب مفسدة أكبر لدفع مفسدة أقل فقد أخل بقاعدة الشريعة. هذا على فرض التسليم ـ جدلاً ـ بصحة ما يراه من تحفظ نحو ما يحسبه نحو المفسدة الأقل».
كما طالب بكشف فساد التأويلات الباطلة لعقيدة الولاء والبراء التي تعتبر إحدى أهم ركائز التطرف الإرهابي؛ إذ تجاوزت التصديق بالإيمان الصحيح والولاء له بجميع معانيه، والبراءة اعتقادًا مما سواه، مضيفًا بأن «هذا الإيمان لا يعني أن أحقد أو أجهل أو أسيء أو أظلم من يخالفني في قناعتي الاعتقادية؛ فالمقابل لي في المعتقد يرى ذلك تمامًا بالنسبة له ولاء وبراء وفي جميع الأديان، ولولا ذلك لكان الناس جميعًا على دين ومعتقد وقناعة واحدة، وكل هذا لا علاقة له بما يجب على الجميع من التسامح والتعايش والعدل والبر والإحسان والرحمة، والتعاون على الخير وإسعاد البشرية».
وزاد البيان بأن هناك نصوصًا إسلامية ووقائع تاريخية من السيرة النبوية دلت على ذلك صراحة كما في آية سورة الممتحنة وغيرها التي تترجم أفق الإسلام الرفيع الذي جاء كما على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليتم مكارم الأخلاق. وليس من مكارم الأخلاق ما يمارسه التطرف الإرهابي اليوم منسوبًا زورًا للإسلام؛ فالإسلام نموذج في الصدق والأمانة والتسامح والرحمة والتعايش والبر والإحسان والعدل مع الجميع مسلمين وغير مسلمين.
وتبنى المؤتمر الدعوة إلى العمل على ترسيخ القيم الأخلاقية النبيلة وتشجيع الممارسات الاجتماعية السامية، وضرورة التعاون في التصدي للتحديات الأخلاقية والبيئية والأسرية، وتعزيز التعاون في إيجاد تنمية مستدامة، يسعد بها الجميع.
كما ندد المؤتمر بظاهرة «الإسلاموفوبيا»؛ باعتبارها وليدة عدم المعرفة بحقيقة الإسلام وإبداعه الحضاري وغاياته السامية، والدعوة إلى الموضوعية والتخلص من الأفكار المسبقة والتعرف على الإسلام من خلال أصوله ومبادئه لا من خلال ما يرتكبه المنتحلون من شناعات ينسبونها زورًا إلى الإسلام.
ودعا المؤتمرون المؤسسات الدينية والتعليمية إلى إشاعة ثقافة التعاون والتفاهم، وتعزيز القيم الدينية التي ترسخ التسامح والتعايش الإيجابي.
كما دعا المؤتمر الجاليات الإسلامية في البلدان غير الإسلامية إلى المطالبة بخصوصياتها الدينية بالأساليب السلمية والقانونية، ومنها الحجاب والذبح الحلال والمدارس الإسلامية، واعتماد عطلات الأعياد الإسلامية، والحذر من الانجرار خلف مهيجي العاطفة الدينية بالتمرد على قرارات تلك البلدان، وأنه لا يسع من لم يسعه البقاء إلا مغادرتها، وأرض الله واسعة كما في آية سورة النساء، وأن يكون الجميع على حذر من اختراق الأفكار المتطرفة لاعتدالهم الديني ووعيهم الوطني.
وشدد البيان على الحاجة إلى التعاون على كل ما هو خير للإنسانية، وإلى تكوين حلف كوني لإصلاح الخلل الحضاري الذي يعتبر الإرهاب فرعًا من فروعه ونتيجة من نتائجه، مؤكدين أن الأصل هو التعاون بين الناس كافة باعتبار وحدة الأصل والخلق.
وثمن المؤتمرون الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية في إيضاح حقيقة الإسلام وتمثيل وسطيته ومواجهة الأفكار المتطرفة مقدرين انطلاقة مركز الحرب الفكرية لاعتراض رسائل التطرف والإرهاب وكشف شبهاتها ومزاعمها وأوهامها.
وأشاد المشاركون بجهود رابطة العالم الإسلامي، وشكروها على عقد المؤتمر، وأثنوا على جهودها في خدمة الإسلام والمسلمين حول العالم، وتقديم العون لهم وتوعيتهم واعتراض الرسائل المتطرفة من أن تصل إليهم، وثمنوا عاليًا النصائح الشرعية التي أسدتها للجاليات الإسلامية مع دعمها الكبير لمطالبهم بما تحظى به الرابطة وفق رؤيتها الجديدة من ثقة وثقل أوصلتها إليهما حكمتها وبصيرتها الشرعية.
كما نوهوا بالدعم المقدم من جامعة لندن لتسهيل عقد المؤتمر فيها مترجمًا تقدير الرابطة والجالية الإسلامية والحضور العلمائي والدعوي والفكري وعاكسًا من جانب آخر أنموذجًا حضاريًّا للتعايش والتواصل الإيجابي، وما يحمله ذلك التقدير الأكاديمي في بعده العريق من اهتمام وحفاوة.
حضر المؤتمر عدد كبير من السياسيين والمفكرين الغربيين من داخل المملكة المتحدة وخارجها، وقد أسهموا في حلقات نقاشه وحواره على مدى جلسات المؤتمر.