د. جاسر الحربش
البداوة ترحال وانتظار والحضارة تخطيط واستقرار. لا مفر من رد كل معنى إلى أصول تسميته الأولى اشتقاقاً، بالضبط مثلما تشتق الأفعال والمفاعيل والصفات من المصدر اللغوي المشترك. المعنى اللغوي للبداوة والحضارة مبني على الاشتقاق من فعل بدأ وحضر. بهذا المعنى اللغوي تكون البداوة هي طريقة البدايات الأولى للتعايش البشري، بتجمعات نووية وبأساليب بقاء تحددها الأحوال الطبيعية والقدرة على التكيف. تكيف البدايات مع الإمكانات الطبيعية يعني عدم الاستقرار في المكان والزمان وترحال يعقبه ترحال. هذا الأسلوب التعايشي ما زال موجودا ً في الأجزاء الجنوبية من الشمال العربي الأفريقي والصومال وبعض السودان وفي صحراء منغوليا الآسيوية، ويكاد يكون منقرضا ً في صحراء الجزيرة العربية.
بنفس الاشتقاق اللغوي تكون الحضارة طريقة لاحقة بعد البداوة للتعايش، ولكن بمكونات التوليف والتركيب وبناء الجزيئات من أصولها النووية البدوية. كل حضري كان في السابق من أصول بدوية. التعايش بهذه الطريقة يعني الاستقرار في الزمان والمكان بشروط الإنتاج المتكرر المدروس والمتطور واستنباط الخدمات المتبادلة لتأمين الحاجات وترابط المكونات الاجتماعية حسب القدرات والمهارات.
كطريقة حياة لم تعد عندنا في المجتمع السعودي بداوة. عندما يذهب أحدنا إلى الصحراء بعربة دفع رباعي مستوردة سعرها ربع مليون ريال، بنظارة شمسية تحمي عينيه من وهج الشمس وقلم في جيبه وساعة في معصمه، ليحصل على تقرير عن أحوال إبله من الراعي المستقدم من بلاد أجنبية، ثم يعود قبل غروب الشمس إلى الكهرباء والماء والسرير في المنزل، هل هذا بدوي ؟. إن سألته سوف يقول لك نعم وأفتخر، ولكنه حقيقة بدوي في العالم الافتراضي وحضري في عالم الواقع. صلابة العود الجاف وفعل الشمس في البشرة وإشعاع العين الصحراوي وخشونة الكف لم تعد من صفات هذا البدوي الافتراضي.
عشائر العراق السنية وبادية الشام وقبائل اليمن التي كنا نخال وراءها من القوة والصمود ما يتناسب مع الموروث الشعبي المتخيل تحولت إلى تجمعات مستباحة للمتصارعين على الساحات الجغرافية، بسبب انتساب القوة لحضارة العلم والاستقرار.
ما نشهده حاليا ً من مهاترات قديمة التوارث تنشر على أحدث وسائل التواصل الاجتماعي لا يمثل بمعنى الإضافة للقوة الوطنية سوى الزفرات الأخيرة قبل الانقراض والانسجام الطوعي مع متطلبات التحضر الوطني لصالح الأجيال القادمة.