محمد جمعة عبدالهادي موسى
صار الفيلم الوثائقي نوعًا من مصادر التاريخ المرئية في عصرنا اليوم؛ يبرهن فيه صُناعه على التقدم الكبير الذي وصلت إليه إمكانات طرح الحقائق والأحداث التي قد لا يستطيع قارئ أن يقرأها أو شاهد أن يشاهدها من قبل ليصل إلى الحقيقة الحقة فيها؛ لذا يُعد (الفيلم الوثائقي أو التوثيقي) مصدرًا مهمًا من مصادر المعرفة التي شهدت تطورًا كبيرًا في عالمنا اليوم؛ التي تجلت من خلال أعمال متميزة في هذا المجال الذي صار يعتمد على أرفع معايير الحرفية تبدأ من وضع الفكرة حتى الكتابة والإنتاج والتقنية في التصوير.
ولا نقصد بذلك هنا الأفلام والمسلسلات التاريخية الدرامية التي شابها الكثير من الزيف فهنالك فرق شاسع بين هذا وذاك وسنوضح ذلك.
إن الفيلم الوثائقي أو التوثيقي هو فيلم يعرض فيه صانعه حقائق علمية قد تكون تاريخية أو سياسية أو اقتصادية وكذلك اجتماعية ويلتزم في عرضها بصورة حيادية ومصداقية عالية تتجلى فيها الأمانة العلمية والصدق والشفافية؛ فهنالك من الأفلام الوثائقية التي تحوي سردًا تاريخيًا أو سياسيًا لمواقف سجلت سابقًا، أو لنكبات أو حروب حصدت في الماضي البعيد أو الحاضر القريب؛ لذا يُعتبر الفيلم الوثائقي كتابًا مرئيًا، أوراقه عبارة عن مجموعة من المشاهد التي تحاول سرد للحقائق أو الأحداث التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية.
من ناحية أخرى فإن صناعة الفيلم الوثائقي واحدة من المهام الأرشيفية التي تواجه تحديات كبرى وجادة؛ حيث يُنقل فيها للمشاهدين واحدة من الموضوعات أو الأشخاص أو الأحداث أو القضايا الواقعية، وربما بعض الأفلام الوثائقية تحمل جانبًا من المعلومات التعليمية عن الأشياء التي لا يعرفها المشاهدون معرفة جيدة، والبعض الآخر يهتم بالحديث المفصل عن قصص بعض الأفراد أو الأحداث المهمة، ومن ثم فسيكون في ذلك كشف لحقائق قد لا يريد أصحابها الدخول فيها أو عرضها.
ولعل هذه الأمر يستدعي الحديث عن الفرق بين الفيلم الوثائقي والفيلم التسجيلي؛ فبداية الفيلم الوثائقي قد يختلف عن الفيلم التسجيلي؛ فالوثائقي هو الذي ينضوي تحت شروط التوثيق الفعلية، أمّا التسجيلي فهو الذي يسجل ما يقع أمام الكاميرا، ولكن هل من فرق؟.. (نعم)؛ هنالك فرق.
لتحقيق فيلم وثائقي، نجد المخرج سيلتزم بالشروط الصارمة للفيلم، ولا يلجأ لإدخال عناصر خارجية، كتلقيح وتركيب، ولا إدارة الشخص في الفيلم كممثل كما نرى الحال منتشرًا، الالتزام هنا هو بتحويل الفيلم إلى وثيقة صادقة مائة بالمائة وخالية من التركيب والتفعيل الجانبي.
أما الفيلم التسجيلي فيستطيع أن يأخذ على عاتقه هذا المنوال من التفعيل كحال المثالين السابقين لأنه يريد أن يسجل طبيعة حياة وربما يواجه اختيارات من نوع تخصيص العنصر البشري الأول في الفيلم بلقطة يتم تركيب شروطها خلال التصوير؛ كذلك فإن التسجيل يعني أن الكاميرا تصوّر لكي تسجّل وضعاً، وليس بالضرورة لتوثيق حقيقة.
إن الفيلم الوثائقي الجيد هو الذي يحكمه الالتزام بالحياد والمصداقية، وتقديم المميز والمختلف الذي يضيف للمشاهد، وفي إنتاج الوثائقيات مدارس إنتاجية مختلفة قسمها الأكاديميون المختصون وأسهبوا في شرحها، فهي فن عريق.
كما تتجلى قيمة الأفلام الوثائقية الجيدة دائمًا لما تحمله من تساؤل حول شكل المجتمع الذي نعيش به، في محاولة أن يثبت أو ينفي صحة وصلاحية فكرة معينة، أو يلقي الضوء حول حدث أو ظاهرة مجهولة بالنسبة لعامة الأفراد؛ على أمل تشجيع الجمهور على القيام بفعل معين.
إن الأفلام الوثائقية التاريخية التي تتناول أحداث الماضي البعيد، لا تزال قادرة على خلق روابط بعالم اليوم؛ وبغض النظر عن اسمها، فإن الغرض من الأفلام الوثائقية ليس مقتصرًا على "توثيق" الأشياء التي حدثت، كما أن الهدف من الأفلام الوثائقية لا يجب أن يكون مقتصرًا على نقل ما حدث، ولكن الفيلم الوثائقي الجيد يجب أن يقنع، ويفاجئ، ويتساءل، حتى تظهر الحقائق جلية ساطعة بالأدلة والبراهين.
ومما لا شك فيه أن صناعة الفيلم الوثائقي تحتاج لأجل إتمام هذا الغرض إلى الدعم، ولعل منها: إطلاق قنوات متخصصة حكومية وخاصة تهتم بالفيلم الوثائقي، وتأهيل المختصين والمهتمين والموهوبين في فنيات الإنتاج والكتابة، لنخلق حالة إبداع، تثري نشر المعرفة والحركة الثقافية؛ فبلدان العالم العربي فيها من كل الطاقات المتميزة والراغبة بالتميز ولكنها تنتظر الفرصة.