محمد آل الشيخ
الإصلاح والتقويم يتطلب أول ما يتطلب مواجهة جادة للانحرافات الفكرية والمقاييس المختلة بشجاعة وعزم، لا تعرف التردد ولا الخشية من الآلام العلاجية، وردود أفعالها الموجعة أحياناً. فلم يعرف التاريخ مصلحين حقيقيين أنجزوا أهدافهم الإصلاحية فعلياً حتى أصبحت حقيقة على الأرض، إلاّ وتوشّحوا بالعزم والإقدام الذي لا يلين ولا يتقاعس، ولا يهتم بردود أفعال الذين يعارضونهم؛ فالقناعات والقطعيات في كثير من الأحيان تتحول عند أناس كثيرين إلى (أوهام) تفتقر إلى براهين حقيقية ومقنعة لتكون حقيقة، ومن أصعب المصاعب على الإنسان أن يتخلى عن أوهام تربى طوال عمره على أنها حقيقة قطعية. وهذا بالتحديد مشكلتنا نحن السعوديون في مسيرتنا نحو الإصلاح والنماء وتقويم الاعوجاجات.
ويجب أن نعترف أنّ ثقافتنا العربية والإسلامية التقليدية الموروثة، هي ثقافة لا تعرف النقد والتمحيص بالشكل الذي يجعل ما نعتبرها مسلّمات مثلاً هي مسلّمات حقيقية لم يشوبها عقلانيا شائبة؛ لأنها في الغالب ثقافة (نقل) لا ثقافة (عقل). وهناك من فقهاء الماضي من يخاف وترتعد فرائصه من العقلانية، فيعتبر (المنطق) ضرباً من ضروب الزندقة والضلال؛ وغني عن القول إنّ المنطق في أبسط تعريفاته وأوضحها هو الآلية العقلانية للوصول إلى الحقيقة المجردة.
صحيح أنّ (الدين) الحنيف مصدره الوحيد هو النقل وليس العقل، ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً حقيقياً ما لم يُسلم بالقرآن الذي وصل إلينا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم تسليماً كاملاً؛ لكن هذا لا يعني إطلاقاً أن يصبح قبول النقل منسحباً على كل ما عدى ديننا الحنيف من شؤون الحياة التي تقوم على تحري مصالح الناس وتلمسها وتتبعها حيث كانت؛ وهذه مشكلتنا العويصة، التي لا نعرف كيف نتخلص من أغلالها وقيودها؛ أي أننا لا نفرق بين ما هو ديني فننأى به عن آلية المنطق العقلاني، وبين ما هو دنيوي فنخضعه لآلية المنطق والعقلانية من حيث القبول أو الرفض.
ولا يمكن لنا أن نبني حضارة حقيقية ما لم نفعّل العقل، وآليته المعروفة (المنطق). خذ مثلاً (الرياضيات) والتي هي فرع من فروع المنطق، والسؤال الذي يطرحه السياق هنا: هل يستطيع أن يقوم أي علم تجريبي للوصول إلى الحقيقة، يعتمد على الفرضية والملاحظة والبرهان، دون أن يتكئ على المنطق، وبالتحديد علم الرياضيات؟.. ليبرز السؤال هنا وبقوة : وهل من توشّح بالمنطق واعتمد عليه هنا (تزندق) كما يقولون؟
ومن يعود إلى تراثنا المعرفي الموروث سيجد كثيراً من هذه المقولات الموروثة، التي ما إن تعرضها إلى النقد والفحص والتمحيص حتى تتهاوى كل أساسياتها وأركانها التي تقوم عليها؛ بل ويعتبرها كثير من النقاد من أهم العقبات المعرفية الكأداء التي تقف حائلاً بيننا وبين اللحاق بركب الحضارة المعاصرة اليوم .
زبدة هذه العجالة أن هناك كثيراً من المسلّمات التي نتعامل على أنها مسلّمات لا تُمس، ونخاف أن نتعرض لها بالنقد، هي في الحقيقة أول ما يجب أن نواجهها بشجاعة، وننقدها، لنرى هل هي حقائق عقلانية أم أنها مجرد (أوهام) لا يمكن أن تصمد أمام العقل والتمحيص.
إلى اللقاء.