أخرج الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ, وَعَظَّمَ أَمْرَهُ, ثُمَّ قَالَ: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ, يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ, يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ, فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ».
قال الصنعاني رحمه الله: (الْغُلُولُ عَامٌّ لِكُلِّ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ), فمن غلَّ أو أخذ من المال العام للمسلمين بغير وجه حق فقد أتى جُرْماً كبيراً, وكان هذا المال عليه ناراً. أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: «كِرْكِرَةُ», فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ فِي النَّارِ», فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا.
ومن استغلَ منصبه بغير حق, أو أخذ رِشْوَةً, أو قَبِل هديةً لأجل مكانه في العمل, أو اعتدى على المال العام بالأخذ منه, أو جعلَ المناقصات تكون لأقاربه أو من يرجو من ورائهم شيئاً مخالفاً في ذلك النظام, أو أخذ راتباً وهو لا يحضرُ إلى عمله, أو لا يقومُ به, أو غشَّ في تعاملاته وما أُنيط به, فقد غلَّ.
قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ, فُلاَنٌ شَهِيدٌ, حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ», ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ إِلاَّ المُؤْمِنُونَ». قَالَ فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: «أَلاَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ المُؤْمِنُونَ» أخرجه مسلم.
وإني لأعجب أن يستشريَ فسادٌ إداريُ وغيرُه في جملة من بلاد العالم الإسلامي, بل ربما تكون تلك البلاد في أعلى القائمة, في حين ترى وتسمعُ انعدامَ ذلك الفسادِ الإداري في بلاد غير المسلمين! إن هذا لأمرٌ غريب! فعلى كلِ من ولي أمراً للمسلمين أن يتقي الله فيه, وأن يقومَ بما أوجبه الله عليه من القيام بالعمل على وجه لا يحابي قريباً, ولا يقدِّمُ صديقاً, وأن يتحملَ الأمانةَ التي أوكلَها إليه وليُ أمر المسلمين, وألا يخونَ أمانته, ولا يتأول فيها, ولا ينظرَ إلى من هلك كيف هلك, وأن يسعى لخدمة الإسلام بالقيام بالعمل الموكل إليه, فإن عجز عن ذلك فليعتذر حفظاً لدينه ولبلده, وإن أبى إلا المضيَّ في عمل لا يقومُ به أو في فسادٍ يرتكبُه, فليتذكرْ قولَ الله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
ويا من وُلِّيتُم على أمر من أمور المسلمين: إياكم واستغلالَ المناصبِ, ومحاباةَ الأقاربِ, والإخلالَ بالعمل, أو التقصيرَ فيه, واعلموا أن الدنيا زائلة, وعن أهلها مائلة, والحسابُ عسير, وحقوقُ العبادِ مبنيةٌ على المشاحة.. وأوصي كل من رأى خللاً في عمل أخيه المسلم الذي قد كُلِّف به فليبذل له النصحَ, وليأمُرْه بالمعروف, وينهَهُ عن المنكر بالرفق والكلام الطيب، لا بالتشهير والتشفي والفضْحِ, ولا يتقصد إثارة الناس عليه, وإشاعة خطئه, والتشمت به, وليكن قصدُ الناصح رضا اللهِ والدارَ الآخرة, فإن كان فسادُ ذلك المسؤول المكلَّف لا يُدْفع إلا بولي الأمر رفع الأمرَ إلى الجهة المختصة بلا تجنٍّ، ولا يُتْبِعُ فِعْلَه بما يفسدُه. والحمد لله، ولي أمرنا - جزاه الله خيراً - في هذا البلد المبارك جعل هيئة لمكافحة الفساد «نزاهة», وهذا الجهاز نوع من النهي عن المنكر, وطرق الوصول إليه يسيرة بلا ضوضاء وإشاعة للأخطاء.
حمى الله بلدنا من كل سوء, وأصلح الحال والمآل بفضله ومنته.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء