أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ذكر الأستاذ (جبور عبدالنور) الأدب بمعناه الحديث؛ فقال: ((علم يشمل أصول فن الكتابة، ويعنى بالآثار الخطية (النثرية، والشعرية) [المعجم الأدبي لجبور عبدالنور ص 31/ دار العلم للملايين ببيروت/ الطبعة الثانية عام 1984م]؛ وهذا حق؛ ولكن الصياغة توحي بالتحجيم؛ لأنه يفهم من أصول فن الكتابة صناعة الإنشاء، ويفهم من الآثار الخطية أنه مجرد تحقيق تراث.. بيد أن واقع الأدب بمعناه الحديث أنه اصطفاء للظواهر والقيم الجمالية في النصوص شعراً ونثراً، وأنه إبداع لقيم جمالية جديدة، وأنه إمداد بنصوص إبداعية جديدة، وأنه تصنيف دقيق للأنواع الأدبية، وأنه إعطاء كل نوع نظريته الفنية، وأنه يربط النص الفني بالفنون الجميلة في عناصرها التي يشترك فيها النص الفني؛ وهو في النهاية تعبير جمالي يفرح فيه بالإيحاء دون إلغاز؛ ولهذا كان تعبيراً فنياً؛ ليلتصق بالفنون الجميلة؛ وهو أرقى فنون التعبير.. ومن شرط سموه: قيم المضمون جمالاً وخيراً وحقاً؛ لأن ذلك كمال؛ والكمال أهم عناصر الجمال.. وعن المضمون أسهب جبور في بيان دلالة الآداب على الشعوب ودورها الدلالي والتأثيري؛ فقال:((وهو المعبر عن حالة المجتمع البشري، والمبين بدقة وأمانة عن العواطف التي تعتمل في: نفوس شعب، أو جيل من الناس، أو أهل حضارة من الحضارات؛ وموضوعه وصف الطبيعة في جميع مظاهرها، وفي معناها المطلق في أعماق الإنسان، وخارج نفسه؛ بحيث إنه يكشف عن المشاعر من أفراح، وآلام، ويصور الأخيلة والأحلام، وكل ما يمر في الأذهان من الخواطر.. من غاياته أن يكون مصدراً من مصادر المتعة المرتبطة بمصير الإنسان، وقضاياه الاجتماعية الكبرى؛ فيؤثر فيها، ويغنيها بعناصره الفنية؛ وبذلك يكون أداة في صقل الشخصية البشرية وإسعادها، ويتيح لها التبلور والكشف عن مكنوناتها؛ وهو يؤدي من خلال فنونه المتطورة المعاني المتراكمة خلال الأزمنة والمستحدثات المعاصرة في شموليتها الإنسانية، أو حصريتها الفردية؛ ويبرز في نصوصه المتوارثة إسهام الشعوب (كبيرة وصغيرة، قديمة ومعاصرة) في بناء الحضارة؛ متوخياً المزاوجة بين المضمون والشكل؛ ليجعل منهما وحدة فنية)).. (المصدر السابق ص316 - 317).
قال أبو عبدالرحمن: تعبيره عن حالة المجتمع: يحتاج إلى إضافة بأن تلك الحالة لا تكون أدباً أرقى وإن توفرت القيم الجمالية شكلاً إلا إذا كان التعبير تصويراً وحكماً؛ لأن الأديب مؤثر فعال في مجتمعه؛ ولا يكون التعبير الذي هو رسالة الأديب إلا باقتران صورة الواقع بالحكم فيه.. والأديب في تعبيره التصوري عن المعتمل في النفوس، أو عن وصف الطبيعة: لا بد أن يكون مكتشفاً؛ والاكتشاف نصف العلم الحديث؛ إذ النصف الآخر صنع وإبداع قائم على اكتشاف القوانين؛ والقيم المجازية.. والتشبيهية هي بداية الاكتشاف من ناحية الشكل؛ وهو من مصادر المتعة بلا ريب؛ ولكنها ليست هي المتعة المجانية؛ بل هي متعة المضمون أيضاً بقيمه الفكرية والخلقية.. والتلون الممتنع في العقل الجمالي: هو الموازنة بين ميول النفس البشرية المضنية؛ فثمة ميول عقلية تطمح إلى الحياة الجادة في شدة الكدح والعرق من أجل بلغة العيش، وشدة العزيمة في العبادة؛ والعابد في عصرنا هذا هو من يؤدي الصلاة في وقتها ويتجنب الموبقات؛ وأما سيرة الصحابة وأحمد بن حنبل وابن المبارك رضي الله عنهم ورحمهم: فتعد اليوم من الأساطير؛ ولا عجب فإننا في ذنب الدنيا؛ فهذا الدرب الشموس الذي يحتاج إلى رياضة نفسية يقتحمه من اكتنفته متطلبات الوظيفة والبيت والأهل.. ثم إن للنفس البشرية الضعيفة: ميولاً خيالية عاطفية لا تطيق الاستمرار على الحياة الجادة؛ وأما الخيال فهو انشغال ببعض التوافه من المباحات في كثير من الآداب، وأما العواطف فأعظمها عاطفة الحب؛ فقد خلقنا الله من دم يفور في الوجنة، ومن عيون تنظر فنسبح ونمرح في سحر العيون؛ والناس يعلمون أن العيون الزرق، أو الحدق التي ترمي بحور: تبتلع العقول؛ وإذا غاب العقل تعطلت الحياة الجادة، وكم من غريق في بحر العيون نحسبه يحسن السباحة، فأصبحنا نرجو له الشهادة؛ فحري بمن لا عقل له ولا قود في الدنيا الفانية؛ (وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما الخبر عن قتيل الهوى): أن يحظى بالشهادة إذا لم يحظ بالوصال، وغلبه خوف الله عن الجموح؛ ولذلك ذيول في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.