سعود عبدالعزيز الجنيدل
من يتابع آراء كثير من الناس في المجالس، وأماكن العمل... إلخ، يستطيع اكتشاف مغالطات موجودة عندهم.
ما شد انتباهي نموذج تكرر كثيرا، خصوصا في الانتخابات الأمريكية السابقة، والانتخابات الفرنسية قبل أيام ماضية.
النموذج الذي رصدته يتمثل فيما يأتي:
- عدم مبالاته بأسبقية الغرب علينا، خصوصا في التقنية والعلوم بشتى أنواعها.
- يرى الرؤساء أيا كانت أسماؤهم متشابهين.
- لا يوجد إنجاز أو تقدم للغرب، إلا والمسلمون سبقوهم إليه قديما.
- يعتقد أن كثيرا من المسلمين منخدع، ومتأثر بالحضارة الغربية.
- العيش على أنغام وإنجازات المسلمين قديما.
هذه بعض مظاهر هذا النموذج، ولكوني ملتزما بعدد محدد من الكلمات -بناء على المساحة التي حددت لي- فسأكتفي بهذه المظاهر، مستخدما عليها مشرط النقد.
لا أحد ينكر الحضارة الإسلامية التي سادت العالم قديما، مما جعل كثيرا من العلوم يرجع الفضل في اكتشافها لأبناء المسلمين، خذ على سبيل المثال لا الحصر:
ابن حيّان والكيمياء.
ابن سيناء والطب.
ابن خلدون وعلم الاجتماع.
وهذا محل فخر للمسلمين جميعا، ولكن هذه السيادة لم يكتب لها الاستمرارية، لأسباب كثيرة ليس هذا المقال مقام تفسير ذلك، ولكن وبكل تأكيد يأتي من ضمنها تقصيرنا الشديد، وعدم إكمالنا مسيرة أجدادنا.
وهذا الوضع لا يجعلنا ننكر على الغرب تقدمهم وأخذهم السيادة والريادة في شتى المجالات، وحتى أنه لا يلغي الديمقراطية التي وصلوا إليها والتي نطمح أن نصل لمستواها في يوم من الأيام.
فَلَو أمعنت النظر قليلا لواقع بعض الدول العربية، وما يفعله حكامها، لرأيت العجب العجاب، فعلى سبيل المثال هذا الطاغية المجرم «بشار» الذي نكل وما يزال ينكل بشعبه بسبب تشبثه بكرسي الحكم بأصابعه وأسنانه!
قارن هذا الوضع بوضع أمريكا وفرنسا اللتين انتهت فيهما الفترة الرئاسية، وانتقلت السلطة بشكل سلس لمن اختاره شعباهما، وهذه الديمقراطية ليست حكرا عليهما، فمثلا تركيا ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت قبل شهور خير مثال لنا على هذه الديمقراطية، حتى أن رفض الانقلاب جاء من أشد المعارضين لسياسة أردوغان، فهؤلاء وبناء على كلامهم يريدون هزيمة أردوغان بصناديق الاقتراع، وليس بصهوات الدبابات، وراجمات الصواريخ...
مسألة الاعتراف بأفضلية الآخرين لا مندوحة منها، خصوصا أنها واقع معاش، وليست من نسيج الخيال.
تبقى التساؤلات التي تحتاج منا إلى إجابة صادقة، وواعية، نقنع بها أنفسنا قبل الآخرين، هي
كيف نستطيع أن نعيش مع هذا الواقع؟
وكيف نتأقلم معه؟
هل ننكر تقدمهم علينا، ونكتفي بالتعايش على ترانيم الماضي؟
في تصوري أن إقرارنا بالتقدم الهائل لهم، والمسافات المأهولة التي تفصلنا عنهم، هو أول خطوات الحل، والنجاح.
بعدها نبذل أقصى ما نستطيع للحاق بهم متسلحين بالعلم والمعرفة اللذين يمكنانا من الجلوس بجانبهم في الصف الأول من قطار التقدم والعلم، ولا نرضى بأقل من هذا.
ختاماً:
هذا النموذج يعيش داخل مغالطة خطيرة، تفرض عليه رفض الواقع الذي نعيشه، وإنكاره، ومحاولة إلغاء كل إنجازات الغرب، وتصوير مجتمعاته أنها منحلة أخلاقيا، وعلميا، ولا يوجد عندهم شيء يستحق الاهتمام!!.
وهذا منتهى اللا عقلانية، واللا منطق، ولو فكر هذا النموذج قليلا لرأى أنه عالة على الغرب، فإذا مرض تناول أدوية، وعقاقير من إنتاجاتهم، ويقتني صناعاتهم، مثل السيارات وخلافه، ولو أراد البحث عن معلومات يستخدم محركاتهم العملاقة كـ «جوجل»، ولديه إيميلات من ابتكاراتهم، ويتقاضى راتبه مستخدما الويندوز ...إلخ، ويصفهم ويصنفهم بالمجتمعات المنحلة علميا، وأخلاقيا.
وهذا يحتم عليَّ طرح بعض الأسئلة عليه:
كيف استطاعوا أن يكونوا متقدمين في شتى العلوم. حتى أن الناس ما تفتأ تنتظر آخر ما توصلت إليه عقولهم لكي يتسابقوا لاقتنائه، ولو كلفهم ذلك الوقوف كثيرا في طوابير لا حصر لها؟
ألست تتواصل مع الآخرين عبر برامجهم؟
هل تستطيع العيش من دون اختراعاتهم؟
أعتقد أنك ستستطيع ذلك في حالة واحدة
وهي أن تحمل خيمتك على راحلتك، وتستوطن الصحاري، وتقتات من الصيد، وترتدي أوراق الأشجار!، وتكتب على الكاغد، وتحفظه في الصوان.
طبعا هذا لا يعني ولا يدلل على كون الغرب مجتمعا ملائكيا، وأننا يجب أن نتابعهم حذو القدة بالقدة، فهذا لا يقوله عاقل، بل يتحتم علينا أخذ ما ينفعنا، وترك ما لا يفيدنا.
يجب أن نوسع مداركنا، ولا نعيش في جلباب الماضي، من دون أن نحاول إعادة أمجادنا السابقة، ونكتفي بالبكاء على تلك الأنغام، ونشدو بترانيم الزمان القديم، فهذه النوستالجيا لن تفيدنا في شيء غير الحسرة والندم.
وأقول لهذا النموذج على لسان أبي العلاء المعري:
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ