د. عبدالرحمن بن حمد السعيد
أهلاً بكم يا فخامة الرئيس في بلد هو دون شك أقدم أصدقائكم في هذه المنطقة وأكثرهم وفاءً لالتزاماته وعهوده، ويشاركنا الترحيب بكم جمعٌ مهيبٌ من قادة المسلمين والعرب وأشقائنا في الخليج، جمعهم إلى جانب محبتهم وتقديرهم لهذا البلد وقيادته رجاء وأمل صادق بأن يكون هذا اللقاء بكم بداية جديدة ومغايرة للقاءات كثيرة لم تجلب لعالمنا سوى الفوضى وضياع الفرص وهدر الدم والمال والوقت.. نرحب بكم يا فخامة الرئيس.. وندرك ونثمِّن لكم أنكم اخترتم هذا الوطن لتكون منه أول إطلالة لكم على مشهد دولي بالغ الصعوبة والتعقيد..
واسمح لي يا فخامة الرئيس أن ابتدئ من آخر كلمة كتبتُها.. فالتعقيد لم يكن بالضرورة صفة ملازمة لكل مشكلات هذه المنطقة لكن التأجيل والتسويف وأخيراً الانسحاب - إذا جاز لي أن استخدم هذه العبارة - الذي صاحب مقاربة السياسة الخارجية الأمريكية قد أسهم في إذكاء عناصر هذا التعقيد، وجعل الحلول الممكنة في لحظة ما شبه مستحيلة في لحظة أخرى.
دعني يا فخامة الرئيس أضرب لهذا الطرح مثالين لا أشك أنك مطلع على خفاياهما..
المثل الأول، يتعلق بالقضية الفلسطينية أو ما اتفق في كثير من الأماكن على تسميته بالنزاع العربي - الإسرائيلي.. فقد لاحت فرص كثيرة لحل هذه المعضلة التي بلا شك الحاضن الأساسي لمعظم (إن لم نقل كل) مشكلات هذا الجزء المأزوم من العالم.. واسمح لي أن أذكر ثلاث مناسبات كان يمكن فيها حل هذه القضية..
المناسبة الأولى.. كانت في لقاء مدريد الذي دعا إليه الرئيس جورج بوش الأب والذي تم خلاله ما أصبحنا نعرفه فيما بعد بخارطة الطريق التي قام عليها مبدأ الأرض مقابل السلام.. لحظتها كان التوافق العالمي مكتملاً، وكانت كل عناصر النجاح متاحة.. لكن لأسباب ليست بخافية على أحد توقف قطار الحل وفقدت خارطة الطريق.. ثم جاء الرئيس كلينتون بأفكار وطروحات جديدة وكدنا أن نقترب من الحل، وأظنك يا فخامة الرئيس تعرف بقية القصة.. بعد هذا يا فخامة الرئيس اجتمعت كلمة العالمين العربي والإسلامي وإرادتهما تحت ما عُرف في بيروت عام 2002م بالمبادرة العربية للسلام.. ومن أجل تحقيق السلام وسعياً وراء تثبيته تقدم العرب بقيادة المملكة العربية السعودية بخطة جسورة حققت لكل الأطراف ما سعت إليه وطالبت به لسنوات طويلة.. تكلم العالم العربي والإسلامي لغة السلام ونحى جانباً لغة الحرب والتحرير كما كنتم دائماً تطلبون منا.. كنتم تقولون لنا دائماً أنكم أيها العرب والمسلمون بحاجة لخطاب سلام يجعل التعايش ممكناً وينهي الحديث عن لغة الحرب والانتقام..
وهذا ما حققته المبادرة العربية بتوازن يثير الإعجاب.. واسمح لي يا فخامة الرئيس أن أذكر لكم أن كاتباً غربياً ربطتني به معرفة طويلة.. وكان ممن يطالبوننا دائماً بحديث السلام كان موجوداً في مكان اللقاء في بيروت.. التقيته وكنا خارجين من القاعة التي شهدت البيان التاريخي.. رفع الرجل إصبعه بشارة السلام، وقال بصوت سمعه الكثيرون: هذا هو السلام الذي سينهي كل الحروب.. إلا أن السلام - مع الأسف الشديد - لم يتحقق وبقيت النار التي تكمن في جوف براكين المنطقة مشتعلة وإن اختار البعض أن لا يراها..
سمعنا يا فخامة الرئيس أنك منهمك في عمل كرست له الكثير من وقتك الثمين لحل هذه القضية.. إدراكاً منك لما لها من ارتدادات على كل مشكلات هذه المنطقة بل العالم أجمع وإن أخذت مسميات كثيرة..
هذا يا فخامة الرئيس هو المثل الأول.. ومن رحمه - في تقديري وتقدير الكثيرين - خرج المثل الثاني، وأقصد به الإرهاب الذي ضرب هذه المنطقة وامتدت أمواجه لتضرب شواطئ دول عديدة.. لا يخالجني شك يا فخامة الرئيس أننا لو استطعنا في مرحلة مبكرة أن نصل إلى حل إنساني وعادل للقضية الفلسطينية فإن الإرهاب لم يكن ليجد الأرض الخصبة التي نما وترعرع فيها.. ولانتفت بواعث وأسباب التطرف والإرهاب والعنف.. واسمح لي يا فخامة الرئيس أن أقول لك رغم كل ما يثار أحياناًً في بعض الإعلام الأمريكي فإن المملكة العربية السعودية هي من أكبر المتضررين من الإرهاب الذي ضرب مدننا وقرانا.. لكننا استطعنا بهمة وقدرات المسؤولين عن أمننا أن نتغلب عليه وأن نتحول إلى مثل لما يمكن عمله لمواجهة الإرهاب فكرياً أولاً ثم بقوة وصلابة المواجهة ثانياً.. واليوم فإن المملكة تتصدر دول العالم فيما كان أحد حكمائها يردد من أن الحرب ضد فكر الإرهاب لا تكسب إلا بفكر أقوى..
واليوم أيضاً يا فخامة الرئيس تجتمع الإرادة الدولية ونحن من ضمنها لمواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه.. لكن اسمح لي يا فخامة الرئيس (وأظن أن هذا يدور في ذهنك) فإن المواجهة العسكرية ليست وحدها من يستطيع أن يحقق نصراً مهما امتلكت من الموارد البشرية والعسكرية والتقنية..
إن ما يقلقني يا فخامة الرئيس ليس هو كيفية هزيمة داعش أو غيرها.. ما يقلقني يا فخامة الرئيس هو ما الذي سيفعله العالم بعد انتهاء معارك الموصل والرقة..؟؟
أتذكر يا فخامة الرئيس إنني التقيت أحد كبار الصحفيين الأمريكيين في الرياض في بداية سنة 2003م.. كان الأمر قد حسم وكان واضحاً أن غزو العراق أصبح أمراً وشيكاً.. سأل الرجل رأيي في الأمر فقلت له (ما أقوله اليوم لفخامتكم).. إن ما يقلقني هو اليوم التالي لانقشاع غبار المعارك العسكرية وماذا ستفعلون بعد ذلك؟؟ ويومها نشر الرجل ما قلته وكان هذا (للأمانة) رأي معظم العارفين بهذه المنطقة وبتعقيداتها.
إننا وأنتم والعالم أجمع - يا فخامة الرئيس - بحاجة لخارطة طريق جديدة تبني على ما أجمع عليه العالم في مدريد وما قبل به العالمان العربي والإسلامي في المبادرة العربية للسلام..
وقبل ذلك وبعده فإننا بحاجة إلى نهج جديد في العلاقة بين حضارتينا.. نهج يرتكز على الاحترام والاعتراف بالحقوق وبإنسانية وكرامة وقدسية حياة كل إنسان.
وإذا جاز لي أن أطرح فكرة بسيطة تكون بداية لطريق طويل وشاق يحتاجه عالمنا المعاصر، فإنني أتقدم بكل الاحترام والتقدير للقيادات العربية والإسلامية ولكم بفكرة تكوين لجنة حكماء مشتركة من عالمينا ومن حضارتينا تضع الخطوط الرئيسة لهذا الطريق وتلتزم حكومات العالم بانتهاجه.. الشرط أو فلنقل الدليل الوحيد لعمل هذه المجموعة هو عدم المساس بالقيم المؤسسة والمقدسات الخالدة لمختلف الحضارات والشعوب.. وإذا أحسنا الاختيار فإن هذا الشرط سيكون معطىً أساسياً لدى أفراد هذا التجمع المبارك - بإذن الله..
أما المطلب الآخر - يا فخامة الرئيس - فإنه يتعلق بتمكين وشد أزر المعتدلين في مواجهة المتطرفين.. وأظنك قد سمعت ورأيت أن هذا هو بالضبط ما تفعله قيادتنا الراشدة، ولعل شيئاً من هذا الجهد سيظهر للعالم خلال زيارتكم.. أقول هذا لأن الدرس الذي تعلمناه هو أن المتطرفين من عالمنا وعالمكم ينفخ بعضهم في نار بعض.. ويمّكن ويسند أحدهم الآخر.. إنه يا فخامة الرئيس قانون الفعل ورد الفعل في أقوى تجلياته..
فخامة الرئيس:
من نافلة القول أننا جميعاً بحاجة للعمل على إطفاء نار التطرف، لكن هذا يتطلب إصراراً وعملاً والتزامناً يتحمل أعباءه كلا الطرفين - وبالتساوي.
اعذرني - يا فخامة الرئيس - إن كان فيما قلته جرعة صراحة زائدة أو قلة لباقة مع ضيف عزيز.. لكنني (وقد تعلمت في بلادكم) أدرك مدى تقدير المواطن الأمريكي للصدق والصراحة وإن لم يكن فيهما دوماً ما نشتهي أو نتمنى..
فخامة الرئيس: يقول بعض المتشائمين إن منطقتنا هي منطقة الفرص الضائعة.. وأقول إن هذا ليس قدراً محتوماً.. لكن علو الهمة وصدق النيات والمكاشفة بين الأصدقاء يمكن أن تحقق المعجزات.
إن ما بعد الموصل والرقة يحتاج من المجتمع الدولي إلى وقفة طويلة تضع كلاً أمام مسؤولياته.. وتعيد للحياة بهاءها ونضارتها وتستعيد مسحة الأمل التي تبخرت أو تكاد في أكثر من مجتمع.
فخامة الرئيس: نتمنى لاجتماعكم أن يكلل بالنجاح ونتمنى أن يجد ملايين الشباب فيما ستناقشون وتطرحون من حلول مصدراً للولوج إلى مستقبل يتسع لأحلامهم وطموحاتهم ويبعدهم عن مزالق التطرف والغلو.