تتخذ الأعمال العنفية أسماءاً متنوعة بحسب الحالة السياسية والإيديولوجية السائدة، فهي أحياناً جهاد أو مقاومة أو دفاع عن الذات او نضال للتحرر او ربما اخذ بالثأر، وهي تارةً اعتداء أو تخريب او إرهاب.
ولعل أهم مصطلح يجري تداوله وتوظيفه منذ مطلع الألفية الجديدة ،علي الأقل ،هو مصطلح الإرهاب الذي تحول الي صناعةٍ معقدة وتجارةٍ رابحة وأداة فعالة لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية وخلط الأوراق الإيديولوجية واستثمار التناقضات التاريخية بحدها الأقصي.
هناك أعمال إرهابية حقيقية تقع في هذا العالم لكن وقع بعضها صاخبٌ جداً إعلامياً بينما وقع الكثير منها خافتٌ جداً وربما صامت. وفي حين ان الكثير الخافت له خلفيات تاريخية فظة ومعقدة وينطلق من سياسات مبرمجة وخطط منهجية ويرتبط بمصالح ومرجعيات مؤسسية نافذة، فإن القليل الصاخب هو في الأغلب الأعم عشوائي الطابع مصدره أفراد أو مجموعات محدودة غير متجانسة ولا يصب حصاده في خدمة أهداف وسياسات ومصالح مستديمة.
تحمل القارة العجوز الجانب الأكبر من الإرث التاريخي للإرهاب المعاصر، فالإستعمار الحديث الذي كان يستهدف استغلال ثروات الشعوب واستنزاف جهودها واللعب بجغرافيتها وثقافاتها علي أنقاض ملايين الجثث من أبنائها تم تقديمه إعلامياً وثقافياً علي أنه تمدين لتلك الشعوب وسعيٌ لانتشالها من وهدة التخلف الي جنة التقدم والنماء.
والواقع ان الاستعمار لم يخرج من بلد الا وهو في الحضيض علي كافة الأصعدة،فالغرب رغم ادعاءاته لم يُثبت عملياً انه جاء لنشر ثقافةٍ إنسانية الطابع ولا لإشراك الشعوب الأخري في مهمة تاريخية أممية تستهدف رفع قدر هذه الشعوب ومؤاخاتها في الجهود والنتائج.
فإذا لم يكن هذا الاستعمار الاستغلالي الظالم إرهاباً فماذا يمكن ان يكون؟!
هل يمكن ان يكون استئصال الشعوب الأصلية في الأمريكيتين واستراليا ونيوزيلندا وأفريقيا عملاً سلمياً وإنسانياً؟!.ومثل ذلك يقال عن استرقاق الملايين من القارة السمراء بعمليات دامية ومهينة ومقززة بتضافر مصلحي بحت بين القارة العجوز والعالم الجديد. وهل يمكن ان يكون قتل مئات الآلاف من مواطني الشمال الأفريقي والإحتفاظ برؤوس بعضهم في المتاحف الأوروبية، بكل صلافة، هو عملٌ تقدمي متحضر؟!
وهل يُعتبر تسليم وطنٍ له أهله وثقافته وتاريخه الضارب في القدم الي جماعاتٍ متشرذمة في مختلف الدول تحت ذريعة حق تاريخي مزعوم لتنتهي العملية الإجرامية بتشريد الشعب الأصلي والقتل المجاني للكثيرين ونهب الأرض بكل ما فيها،هل يمكن ان يأخذ ذلك مسميً غير الإرهاب؟!
وكل ذلك إرهابٌ مؤسسي وممنهج، ولأنه يصدر من أمم تنعت نفسها بالديمقراطية وتأتي حكوماتها عبر انتخابات شعبية حرة فإنه يمكن القول دون مواربة ان هذا الإرهاب ليس إرهاب دولة فحسب لكنه إرهاب جمعي يصم هذه الدول وشعوبها وثقافاتها ولا توجد أي بادرة بارزة للمراجعة او الاعتذار او التعويض للشعوب المغلوبة التي وقع عليها الفعل الإرهابي. ومما يعزز من طبيعة هذا الإرهاب الغربي المتجذر مؤسسياً انه انتقل بنزعته وجذوته من منبعه الأصلي في الغرب الي فرعه الأصيل في غرب الغرب(العالم الجديد) لينطلق عاتياً متلاطماً عابراً للقارات بطريقة تبدو أحياناً وكأنها عبثية بدون نتائج موضوعية منظورة وتفتقر حتي الي التمدين الشكلي المحدود الذي ادعاه الغرب في مراحل تاريخية سابقة. شهد النصف الأخير من القرن العشرين علي يد القوة الغربية الجديدة البازغة إرهاباً مؤسسياً عارماً إتسم بالفظاظة المتناهية والنتائج الفادحة مدنياً واجتماعياً وإنسانياً والسرعة النسبية في إنجاز المهام الإرهابية الشاملة.تجلي ذلك في مناطق متعددة ومتنوعة لعل أبرزها كوريا وفيتنام ثم أفغانستان والعراق وليبيا مروراً بعمليات موضعية محدودة أو واسعة في عدد من القارات. هذا الإرهاب الجديد لم يواجه علي أرضه مطلقاً فيما عدا حالتين يتيمتين إحداهما شديدة الوضوح عندما قصفت اليابان بيرل هاربر الامريكية وجاء الرد مباشراً ومحدداً باستخدام أكثر الأسلحة إرهاباً وإفناءاً وتدميراً جذرياً. والأخري شديدة الغموض حين تم تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 فجاءت الإستجابة العملية لهذا الحدث أقرب الي الفعل المعد له سلفاً ممثلاً بمنظومة من المواقع المستهدفة وبآليات سحق وتدمير فائقة التأثير تعدت ،للمرة الأولي تقريباً، الأهداف البشرية والمدنية الي تعويم النسيج الثقافي وتفجير الأفخاخ التاريخية المنسية وخلق حالة غير مسبوقة من الفوضي السياسية والإنسانية الشاملة في منطقة الشرق الاوسط تحديداً.
لم يقتصر هذا الإرهاب المؤسسي المتقدم علي الوسائل العسكرية والمادية وإنما ترافق مع جهود مدروسة لشيطنة الثقافة الدينية لشعوب المناطق المستهدفة من خلال تحريض وتزييف إعلامي ،متواتر ومسيطر، عمل علي استثارة جماعات بعضها عشوائي والبعض الآخر قابل للتنظيم عن بعد في تشكيلات منبتة الصلة عن محيطها ومفارقة في توجهاتها وممارساتها للمجتمعات التي تسربت منها. ولعل أهم حلقة من حلقات الإرهاب المؤسسي يتمثل في الإرهاب الإعلامي الطاغي عالمياً،وهو عمل لا يقل عنفاً وفتكاً عن الأعمال الميدانية المدوية ولا يختلف في منهجيته ودقته وتوجهه عن الخطط والجهود السياسية السابقة واللاحقة للأعمال الميدانية.علي ان حقل الارهاب الإعلامي أوسع وأعمق تأثيراً من سواه،حيث يتعدي فعله المدمر والرادع الشعوب والثقافات المستهدَفة الي شعوب وثقافات أخري يستجلب تأييدها أو يمهد لردعها لاحقاً كما الي شعوب ذلك الإرهاب المؤسسي ذاته لخلق حالة استنفار سياسية او ثقافية او ربما لإيجاد بيئة خوف دائمة تساعد علي استمرارية نهج الفعل الارهابي دون اعتراضات مجتمعية او معارضات سياسية.
- عبدالرحمن الصالح