يقول نزار قباني عن نفسه (لا أحد يستطيع أن يرسم وجهي أحسن مني) وهذا صحيح لنزار استثناءً وليس لغيره! وإن خالفتُ الدكتور محمد هدّارة في هذه! فإن الناقد والقارئ هو من يستطيع أن يرسم ملامح الشاعر وأن يفسّر كل قطعة منه على حدى وليس الشاعر نفسه ففي هذه جسارة ليست محببة! إلا نزار فذلك له! فهل لنا أن نفتح دفاتر نزار بعد أن غيبه الموت من سنين عديدة ؟! وهل لنا أن نعيده إلى غرفة الجراحين بعد أن عاينته مباضعهم كثيراً؟! فبعض الشعراء كحتى سيبويه يموت الناقد وفي النفس شيء من شعره! للتناقض في أحايين كثيرة أحجية تولّد نوعاً من الإبهام والغموض وتنبئك عن مشكلة متجذرة في الشاعر تأصلت في النفس وكبرت معه أو مواقف ظلت تتردد في الذاكرة تبلورت في صورة حروف وكلمات وحريّ بالشعر أن يكشف مكنوناتها العصيّة وما وراء ذلك !
لا يوجد في الشعر العربي شاعراً استخدم الغزل الفاضح أو ما يسمّى بالصريح في قصيدة رثائية أو وطنية حتى عمر بن أبي ربيعة في رثاءه لامرأة المختار بن عبيد لم يستخدم ألفاظاً خادشة مخجلة أو أبونواس أو شعراء المجون كلهم فالاتجاهان متناقضان كل التناقض كاستخدام الملح والسكر في آن واحد فليس من السهل بمكان للشاعر أن يتأتى له بأن يسلك طريقين كل منهما في اتجاه مختلف ذلك أن شعراء الغزل تتراوح أغراضهم في نفس الاتجاه بين صريح وملتزم فلا يجيد أن يتخذ غرضاً آخر وإن كان فهي مقطوعات بسيطة يضعف فيها كثيراً! ومن يقرأ قصائد نزار قباني الوطنية أو العروبية أو في رثاء المدن لا بد أن يمر في قراءته وهو في طريق الرثاء أو الحزن والذكرى والتمجيد والبطولة والهجاء أيضاً على جسد المراة بتفاصيله الحسّاسة فلا بد له من ذكر كل ما تخجل منه المرأة نفسها وكأنه طبيب يشرّح جسم إمرأة أو عالم أحياء متخصص! وكأس وغانية وراقصة وطبّال ذلك ديدنه في مجمل قصائده لا تبحث كثيراً في بواطن كلماته إذ هو لا يتأول ذلك ولا يراوغ أو يداهن بل تراها ظاهرة عياناً! فهو لا يرى شوارع المدينة إلا شعراً أسوداً شديد السواد قد ارتمى على ظهر فتاة مضمخة بالمسك ولا يرى جمال المدينة إلا نهوداً وصدوراً عارية ولا يرى أنهارها إلا كوؤساً معتّقة بالنبيذ الذي لا يفتر صاحبه يلقم فاه بين آونة وأخرى وقد أخذه السُّكر كل مأخذ وإذا أتيت إلى تاريخ دولة أو مدينة جعل الزنا عنواناً للسيرة والبغاء باباً للدخول إليها! وما بالك بشاعر يرى انطلاقته الفعلية من قصيدة (نهداك) ! ويرى بدايته المبكرة من قصيدة (قمر وحشيش وخبز) ! وعلى أنها تجربته في قصيدة التفعيلة ( الشعر الحر) والتي أبحر معها كثيراً إلا أن صدى هذه حلّق في الآفاق ! لربما أراد أن ينفرد بخاصيّة لم تكن لأحد من قبله وقد سنّ هذه لمن يأتي بعده وقد جعل نفسه إماماً لطريقة جديدة في الشعر العربي أقول قد يكون ذلك !!
عندما يستقبل المرء أكاليل المدح والإطراء ويشيد به الناس طرّاً أجمعينا يأخذه الزهو كل مأخذ ويطير به الغرور إلى عش النرجسية الملونة بألوان طيف الحياة فيجد نفسه الأول في كل مناحيها دون منافس فلا يرى أحداً في ساحة الوغى غيره فيصيح في أعماقه: هل من مبارز؟! فيرد عليها : لا .. ليس هناك أحد غيري ! فمن أخاف؟! وهذه واحدة كانت قرباناً لنرجسية مطلقة منذ الولادة كشاعرٍ حتى مماته هكذا يصف نزار نفسه وهكذا كان في سيرته من حيث الدلال الطفولي والذي كبر معه حتى تضخمت الأنا بشكل سلبي فأصبح جلْدُ الآخر سهلاً بهجاء استعراضي من واقع الجرأة والجسارة وبواسطة الألفاظ والمعاني القاسية والبذيئة أحياناً والإيحاءات الجنسية التي لا تخلو مجمل قصائده من الإشارة في ذكرها عبر الكنايات والاستعارات والتشبيهات . يتبع
- زياد السبيت