إذا فرضنا أنَّ الشائع، نقاداً وأكاديميين، لا يقدرون على التمييز بين الحقيقة والوهم، ولا يمكن لأي شخص أن يكون خبيراً لكشف الحيلة التي تقدمها الصور، على اعتبار أنَّ الصورة بطبيعتها مجرد وسيلة المراد بها تمثيل الأشياء والأفكار تمثيلاً بصرياً. على أيّ حالٍ، الصورة بذاتها حقيقة، في جوهرها، على عكس الكلام المكتوب والمسموع في كون الكلمات قابلة للجدل.
يقول الألماني فيريدريتش نيتشه أن الحقيقة موجودة، ولكن يصعب اكتشافها بسهولة، بالتالي أفسدها تأويلات البشر، لأن هنالك طرق عديدة لتأويلها بصورة مباشرة، بتفسيرات تخدعهم عن معرفة الحقيقة بذاتها مما يدفعهم لنسيانها والعيش برضا وقناعة داخل الوهم.
الحقيقة بوصفها قيمة يقع تأويلها داخل نوعين فقط؛ النوع الأول باستخدام التفسيرات الكلامية العقلانية وغير العقلانية مما يدفع في الوجدان شعوراً بالرضى. والنوع الثاني عبر تفسيرها باستخدام براهين علمية وأدلة مادية.
وفي ذلك نذكر القارئ عن بداية القرن السابع عشر، عندما كانت الكنيسة السلطة العليا، قضائياً وتشريعياً، تم اتهام والدة العالم الفلكي الأسوأ سمعة يوهانز كابلر بممارسة السحر والشعوذة، واستمرت إجراءات المحاكمة لسنوات، تفرغ كابلر للدفاع عن والدته في محاولة إخراجها من السجن. وكان دفاع كابلر تحفة قضائية، وتمكن من تفكيك تناقضات وثيقة الحكم القضائي، وأثبت أن الأكاذيب التي ألقوا باللوم فيها على والدته يمكن تفسيرها بإستخدام المعرفة الطبية والوعي السليم.
سبب عداء كابلر و والدته أنَّ الشائع في ذاك الوقت هو تفسيرات الكنيسة للظواهر الطبيعية ومن أحدها النظرية الفيثاغورسية القائلة أن الأرض مركز الكون وتدور حولها الشمس وكل الكواكب بشكلٍ دائري، ولكن التأويلات العلمية التي قدمها كابلر، تناقض تفسيرات الكنيسة التي تعتمدها وتفرضها، أثبت كابلر أن الشمس هي المركز وأن الأرض تدور حول الشمس بحركة شكلها بيضاوي، رغم أن التأويلات التي استند عليها كابلر تعتمد على أدلة مادية وبراهين، إلا أن السلطة رفضت نظرياته، واكتفت بمحاربته وتشويه سمعته.
وفي حالة أخرى، شهد منتصف القرن التاسع عشر ميلاد تقنية جديدة، أداة التصوير الفوتغرافية، تغير التاريخ وأصبح يشاهد صورا للأموات، وصورا للأحياء، وصورا للأحداث التاريخية، وصورا للظواهر غير الطبيعية، وصورا للظواهر الطبيعية، وأصيب الناس بدهشة، كيف يتوقف الزمن؟ وكيف يتم اقتباس الزمن عبر الكاميرا وطباعته على ورقة صغيرة؟
ومع حلول القرن العشرين، تطورت التقنية الجديدة، وأصبحت الصور متحركة، على اعتبار أن الصورة يقين لا تقبل الجدل، وتم توظيف الوسيلة الجديدة للسيطرة على الرأي العام، ولصناعة القوالب النمطية. وتضليل المتفرجين بتصنيفات وأنواع كالوثائقية، حيث إنه لايوجد أفلام وثائقية، وأن أي لقطة مصورة يتم قطعها، أو إضافة صوت عليها، أو حتى تغيير ألوانها، تصبح مجرد خُدع بصرية.
بدأت الأفلام الوثائقية في السينما الصامتة عن طريق تصوير المجتمعات، كالإفريقية مثلاً، وتنميطهم على أنهم شعوب تتصرف كالحيوانات، وذلك عبر التركيز في السلوكيات غير البشرية، وقطع اللقطات مع مشاهد حية للحيوانات، بمونتاج رمزي، وإيحاء يدفع المتفرج للربط بين الصورتين، وتصديق الفكرة.
ثم حل الصوت على صناعة الأفلام الوثائقية، وأصبحت سطوة صوت الراوي أقوى الحيل، حيث بإمكان الراوي أن يقول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كل الأوهام التي يود تصديرها، كالقول مثلاً في تنميط المجتمعات الإفريقية على أنهم حيوانات.
امتداداً حتى هذا اليوم، أصبحت الفيديوهات الوثائقية عند البشر هي الحقيقة بشكلها البصري ، ولكنها لا تقدم غير أوهام حول جوهر الحقيقة المنسي، إرادة الحقيقة، حتي أصبحت هذه الأوهام تدفع شعوراً بالرضا، عند الشائع.
- حسن الحجيلي