في صباح باكر من أيام الشتاء... وشتاؤنا كـ(الربيع العربي) يوم بارد ويوم حار، بل هو ربيع في البلدان الأخرى وينتحل شخصية الشتاء عندنا... كان الطقس جميلاً، والشمس المسعورة لم تكشر عن أنيابها بعد، والمطر رذاذ كعطر الحلاقة – كما يقول عادل إمام. رحت أستمتع بهذا الجو الخيالي وأنا متردد هل (أندعس) داخل السيارة وأخسر المتعة، أم أركب وأمري إلى الله حتى لا أتأخر عن عملي بالزحمة، فركبت وشغلت السيارة وفتحت جميع النوافذ و(الغترة) أيضاً وأزحت (العقال) عن رأسي وعقلي! ورحت أستنشق بملء رئتي وأتلذذ بالرشة العطرية على وجهي. سمعت المذياع يقول: يجب الاعتراف بالآخر! فأنا لا أغلق المذياع كالعادة، ويشتغل حال ما تشتغل السيارة... وكي لا (تطير) المتعة أغلقت المذياع، بل (كفخته) وانكسر الزر... ثم أعدت (العقال والغترة) إلى وضعهما السابق وانطلقت مجبراً إلى عملي.
تمنيت أنه يوم إجازة حتى لو كانت مَكْرُمَة، ولكن جملة المذياع تلك ظلت تجول وتصول في رأسي. حاولت طرحها أو (تفلها) أرضاً فلم أفلح. عدت أحاول بالزر المكسور لأستعيد الموضوع فلم أفلح أيضاً، ثم أقنعت نفسي أن المذياع (ما له داعي)، حتى الأغاني التي يقدمونها فيه لا تصلح دعاية لكسر السكون بالرغم من أنها صاخبة حتى الثمالة! ثم بقيت (أهوجس) بتلك الجملة التي نضحت عن المذياع قبل الكسر! من هو الآخر؟.. لا بد أن يكون بالنسبة لي مثلاً شخص غيري أنا، وإلا كيف يكون آخر؟ أو أنني أنا الآخر، وفي هذه الحالة لا بد أن يكون هناك شخص هو الأول وأنا الآخر! أي لو استخدمنا لغة الأرقام، فإذا كان الشخص رقم 1 لا بد أن يكون الآخر رقم 2 والعكس، ولكني استمعت إلى الحوار الوطني عدة مرات، فلم أسمع أن أحداً من الحضور قال عن نفسه أو غيره أنه الآخر! إذن أين (الواحدين) – كما يقول إخواننا السودانيين- وأين (الثانيين)؟ ... الله يلعن الشيطان أنا (شورّطني) بهذه التفاهة والجو جميل؟
لا لا ... المذياع قال يجب الاعتراف بالآخر! أي أنني إذا لم أعترف بالآخر لا بد أنني أرتكب إثما عظيماً، ولكن كيف أعترف بالآخر وأنا لا أعرفه؟ إذن لا مفر من معرفة الآخر ومن ثم أعترف به! وهذا أفضل الحلول لهذه المشكلة التي لا تريد أن تعتق ذهني لوجه الله سبحانه.
سأفترض أن أخي، أي أقرب الناس إليّ هو الآخر! أو ربما أنا الآخر بالنسبة له! وماذا بعد؟ لماذا يقول المذياع يجب (الاعتراف)؟ فأنا معترف به منذ ولادته حتى يومنا هذا، ولا أتذكر يوما أنكرته والعياذ بالله، والأمر ينطبق على إخوتي كلهم وأخواتي وأبي وأمي وأقاربي، بل حتى أصدقائي وزملائي البعيدين والقريبين مني لم أنكرهم يوماً والحمد لله. إذن ما هو الاعتراف الذي يريده المذياع ابن الحرام؟ ... هل الآخر هو الذي لا صلة لي به؟ .. مستحيل .. فعدد سكان الكرة الأرضية بلغ ما يقارب 7 مليار حالياً ... فهل كل من لا أعرفه من هذا البحر البشري المتلاطم هو (آخر) بالنسبة لي؟ ولكن مهلاً .. مهلاً ثم مهلاً، تذكرت فجأة مقولة للفيلسوف العظيم جان بول سارتر يقول: الآخر هو الذي يجعلك تدرك ذاتك! وهذا معناه أن المذياع مُحِقٌّ في طلب الاعتراف! لأنه إذا لم تعترف بالآخر لا تعترف حتى بنفسك!
لا حول ولا قوة إلا بالله! (بغيت أكحلها عميتها)... وجدت نفسي مجبراً على التأمل، حيث لا وجود لي -حسب سارتر- إذا انعدم الآخر! إذن الأمر على هذه الدرجة من الأهمية، لا وجود لي إلا بوجود الآخر. إذن أنا والآخر متحدان في جسد واحد، فأكون أنا أحياناً وأكون آخر أحيانا أخرى!... كيف ذلك؟
أدركت أخيراً أنني نتاج لمجتمع، بتخلفه ورقيه، بخصوصيته وتلاقحه مع الحضارات الأخرى، بفكره وشِعْره وأغانيه وموسيقاه ونجاحاته وإخفاقاته وعثراته وقبائله ومستخدميه ...إلخ. إذن أنا لست واحداً ولا حتى اثنين، المجتمع كله يسكن في كياني ووجداني ... ليس هذا وحسب، بل أنه احتل مركز المدير أو الشرطي في ذهني، ودائماً يوجهني لما يجوز وما لا يجوز، وكأنه يحمل خيزرانة ليجلدني إذا ما سولت لي نفسي بمخالفته! .. لذلك أطرب عندما أسمع أغنية .. لا لا يا الخيزرانة بالهوى ميلوك، وأشعر بذنب عظيم عندما أخالفه قد يحرمني النوم لعدة ليالي، فهل يجوز القول إنَّ لي ذات منفصلة عن ذوات الآخرين في المجتمع؟ كما أنني متابع للإعلام المرئي والمسموع والمكتوب وإعلام التواصل الاجتماعي و(سواليف) المجالس وربما الإعلام الذي لم ير النور بعد! ولذلك أجد أن وجداني حاوية للآخر المحلي والإقليمي والعالمي. ولكن إذا كان البشر كلهم رقم 2 في وجداني، أين رقم 1؟ هل أنا موجود في وجدان (الآخرين)؟
بما أنني أعمل وأهتم بعائلتي الصغيرة والكبيرة وأقاربي وأصدقائي وزملائي، فإنني موجود -بالضرورة- في وجدانهم! ولكن هل أنا موجود في وجدان من لا أعرفهم ولا يعرفونني؟ وما هو الرابط بيني وبين من لا أعرفهم؟ ... أعتقد أن السلوك هو الرابط! فعندما أكذب أو أسرق أو أزور أو أحرق أو أقتل أو أمارس الفساد حيث لا يراني أحد، فأنا بذلك أمارس ذاتي رقم 1! وأكون معتدياً على حق من أعرفهم ومن لا أعرفهم! وإذا قررت أن أكون مفيداً للمجتمع الذي أنتجني، لا بد أن أمتلك مخزونا علميا وثقافيا يساهم في تنمية المجتمع كله، ولكي يكون هذا المخزون -مهما كان حجمه- ذو فعالية لا بد من ربطه بالسلوك ... يقول الشرطي الذي في داخلي: أنت لست مثقفاً إذا تحدثت عن فضائل المرأة بكل ألوان قوس قزح في الإعلام، ثم ضربت زوجتك بنعال (زنوبة) حتى لو أنبتت ثلاث أزواج من قرون الوعول في رأسك! ولن أدخل هنا في تعريف المثقف، وهل الثقافة مطلقة أو نسبية؟ هل الذي يكفرني هو آخر بالنسبة لي؟
التكفير هو قتل فكري وعقائدي، والذي يمهد للتصفية الجسدية، وإذا كان حقي (الآخر)، فانا أقتل نفسي! ... لا لا لا يمكن أن يكون هذا حق لي أو لأي كان! والذي يمنح هذا الحق لنفسه أو لغيره، هو ليس الأول ولا الآخر، لأن ذلك ليس حقاً، إنه نفي للأنا وللآخر وللأرقام وللتاريخ والجغرافيا، أي للمجتمع كله.
- د. عادل العلي