د. إبراهيم بن محمد الشتوي
جماليات الصحراء
وبالإضافة إلى المكونات الثقافية السابقة نجد في النص الروائي مكونًا آخر، يمثل جانبًا مهمًّا من حياة الصحراء؛ إذ يتردد بين شخصياتها بكثرة، ألا وهو الغناء، ففي الرواية يأتي الغناء مؤنسًا قاهرًا الوحدة، وما يعيشه المرء من مشاعر سيئة، وذلك حين نجد مران وهو في القبيلة الأولى يكسر رتابة وحدته بالغناء:
«تنحنح، وسعل، وغنى طويلاً، وصرخ، وقفز»
فمران وحيد في هذه القبيلة التي اتخذته سخرة، يعمل بلا مقابل، وهو وحيد أيضًا مع غنمه في المرعى، ولا يجد ما يؤنسه ويخرجه من رتابة الوحدة إلا الغناء الذي وصفه السارد بأنه طويل في موازنة بباقي الأفعال السردية التي قام بها، فهو فعل مثل سائر الأفعال التي عطف عليها، وجاورها في جملة واحدة، ولكن المساحة التي أخذها هذا الفعل، سواء من زمن الحكاية الأصلي، أطول مما أخذه في زمن الحكي، وتأثيره في نفسه أيضًا أكثر من الأفعال الأخرى.
وهو وسيلة أيضًا لطرد الوحشة، وإبعاد الخوف، وإيهام الآخرين بالطمأنينة، والراحة، سلكها والد «منهاد»، وهو محاصر في الغار، تطارده الذئاب، يصارع من أجل البقاء، فقد حدث نفسه بأن الغناء هو الوسيلة التي ستشعر الذئاب بالخطر، وتخيفها منه: «تنحنح، وبكل قوته أخذ يغني، عوت الذئاب»، ثم قال محدثًا نفسه: «غن لتطردها، ارفع صوتك لتعرف أنك غير خائف».
ومثل موقف «مران» تفعل «وريقة» لمقاومة غضب «مران» بعد هروب «سلمى»، واختفائها، وسعيه الجاهد في البحث عنها؛ إذ «تسلحت أمامه بالغناء»، وأصبح سلاحها الوحيد الذي تقاوم به صلفه، وعناده، فهو الشيء الوحيد الذي يثبت أنها ما زالت موجودة وقادرة على المقاومة.
وهذا الغناء لا يخيف الذئاب وحدها؛ فقد أخاف «مران» حين تضايق من غناء زوجته، ونهاها عن ذلك، حتى بعد أن انتقل من الحي الذي كان يعيش فيه، وتحول إلى قرية صديقيه عامر وعمرو، وقد لفت انتباه «سلمى» نهي أبيها أمها عن الغناء، وكان كلما دخل البيت ووجدها تغني نهاها عن ذلك، حتى قالت في نفسها إنها لن تغني حذر إغضابه.
وقد يكون سبب غضب «مران» من غناء زوجه صوتها الجميل، وغيرته عليها، ولاسيما أنه أنكر شبه ابنته له، وأبدى تجافيًا عنها، وتوجسه من أن يكون وراء غنائها ما وراءه، خاصة أنه ربما سمع شيئًا مما سنورده من حكاية، وجعله يشك في نسب ابنته إليه.
هذه الغيرة والصدود يذكرانا بالحكاية التي روتها «وريقة» زوجته عن حبها الأول لابن أمير القرية الذي وقع اختياره عليها في حفلة الرقص والغناء التي تسلكها القرية في العيد، حين تقوم الفتيات فيها بالرقص والغناء في باحة أحد المنازل في حلقة تضيق، وتتسع، بينما يحيط الرجال والشباب بهذه الحلقة، يصفقون ويراقبون، وحين ينطق اسم أحد الحاضرين باسم إحدى الفتيات الراقصات فإن عليه أن يتقدم إلى وسط الحلقة، ويتخطى النساء، ثم يبدأ بالغناء إلى أن يصل إلى فتاته، فيلبسها حزامه في رقبتها، ويستمر بالغناء والرقص، منتظرًا إجابتها عليه، فإن أبقت الحزام، ومدت يدها إليه، فعليه أن يمسك بيدها، ويبدأ معها برقصة مصحوبة بالغناء جديدة، لا يصاحبهم بها أحد، وهنا يعلن ميلاد حب جديد في القرية، ترعاه باهتمامها إلى أن يتكلل بالزواج. وإن ألقت حزامه، وأخرجته من رقبتها، وألقته عليه، أو ضربته به، فإن عليه أن يسحب خيبته في الفوز بقلب محبوبته، ويفر من الحفلة إلى الحقول حيث يواري خيبته وحبه المجروح إلى أن يندمل قلبه، وتخف تقرحات عينيه. ففي هذه الحفلة، مثلما سبق من «استسقاء» الماء، نجد الغناء والرقص وسيلة للجمع بين الذكور والإناث في هذه القرية، بحيث يصبح اللقاء مشروعًا على مرأى ومسمع من القبيلة في القرية، ويعبر فيه كل واحد عن مشاعره، سواء بالقبول أو الرفض. ومع أن هذا المحفل مفتوح للجميع إلا أن هذه المناسبة تخضع لما تخضع له عملية «الاستسقاء» سالفة الذكر، فالمواضعات الاجتماعية تعني أن صلات الحب التي تطل برأسها في هذه المناسبات لا تخرج عن القواعد المتعارف عليها، والفروقات الطبقية؛ فـ»وريقة» زوجة «مران» مرت بهذه التجربة؛ فقد رقصت بالحلقة كما ترقص الفتيات، وغنت كما يغنين، وذكر أحد الشباب اسمها كما يذكرون، ودخل وسط الحلقة، وألقى على رقبتها حزامه، وأمسك بيدها، وأتمت طقوس حفلة الحب الرسمية كاملة، وعرفت القرية كلها بميلاد هذا الحب - كما تقول - إلا أنها لم تتمكن من إكمال الحكاية إلى المراحل اللاحقة؛ فالحبيب الذي نطق باسمها كان ابن أمير القرية، وهي ليست منهم، فاحتفل بخطبته على ابنة أمير قرية أخرى، مع أنه كان يواصل الغناء حين كان يعمل في حقله القريب من منزلهم، فتستمع إليه، وتعلم أنه لها. فالفارق الاجتماعي الذي منع مران من الحديث إلى الفتاة، واستسقاء الماء، هو عينه الذي منع هذه الفتاة من الزواج بمن اختارها زوجة له في حفلة العيد. وذا كان الموقف الأول يتخذ أسلوب المواربة، والكناية، فإن هذه المناسبة لا توارب بالهدف المقصود، بالرغم من أن الهدف المعلن هو الاحتفال بالعيد، وبما يتناسب معه من لهو، ولكن الذي يحدث هو إتاحة المجال للفتيات لاستعراض أنفسهن أمام الشباب على مرأى ومسمع من الجميع، والسماح لهم جميعًا بالتصريح عما يدور في نفوسهم، وإعلان مشاعرهم أمام الجميع، فهو تواطؤ كما التواطؤ الأول الذي كان تحت دريئة العطش؛ في حين يأتي هذا تحت دريئة لهو العيد.
هذا التواصل الذي يتم عن طريق الغناء في هذا الاحتفال، وما تلاه من أحداث، هو الذي كان يخشى منه مران حين يسمع زوجه تغني؛ فينهرها، وهو الذي جاء مستعملاً في موضع آخر من الرواية حين أشارت إلى أجا بأن لا يأتي حتى يسمعها تغني؛ فالغناء هنا يمثل أداة تواصلية بين الطرفين، يحمل رسالة ضمنية، بعيدة عن مضمون الغناء نفسه، وإنما بوصفه هو الرسالة، وقد فهمها أجا؛ فانتظر حتى بدأت بالغناء.
في الشواهد السابقة نجد الغناء يقوم بوظيفة اجتماعية؛ إذ يتخذونه طريقًا للتواصل، وللتعبير عما يدور في نفوسهم من هم وقلق، أو خوف، كما يتخذونه أيضًا طريقًا للمقاومة، الوحدة أو الشعور بالضعف، والتحدي، ويقوم أيضًا بوظيفة سردية؛ إذ يمكن الشخصيات من تطوير الحدث بالرغم من التباعد بينها، ويسهم في جعل الحديث يسير نحو غاية معينة بحجة الغناء، بالرغم أنه قد لا يكون كذلك على وجه الحقيقة.