تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
ويشير عبد الرازق إلى أن هذا النوع من التعايش ممكن نظراً لوجود قيم ديمقراطية في الدين نفسه؛ مثل المساواة أمام الله، والعدالة الاجتماعية وسيادة الشعب (الشورى في حالة الإسلام). ويثبت التاريخ أن الدين لم يكن دائما عقبة؛ بل عمل أحياناً كقاعدة دعم لإقامة أنظمة ديمقراطية كما هو الحال في بريطانيا والولايات المتحدة. وعبر صياغة هذه التسوية والدعوة إلى استيعاب التراث العربي الإسلامي في الثقافة المصرية الحديثة، (24) تراجع موقف عبد الرازق ليصبح منسجماً مع الخطاب الفكري المصري السائد الذي واصل الانشغال بقضية التقليد مقابل التغيير، وكان مترددا في استبعاد الدين من الحياة العامة. وفي الوقت نفسه، أدى الانشغال المكثف بمسألة الخلافة لمدة عامين (1924-1926)، فضلا عن ظهور جماعة الإخوان المسلمين (الإخوان في بقية الورقة) في عام 1928، إلى ترسيخ دور الدوائر الإسلامية في الصراع حول طبيعة الدولة والمجتمع في مصر. وبالدرجة نفسها من الأهمية، لم يصل التنافس بين الإخوان وبين الأزهر مطلقاً إلى درجة المواجهة، إذ تشارك الجانبان في نظرة عريضة إلى الإسلام باعتباره إطارا معياريا للإيمان وللسلوك، وكل منهما وفقاً لحقل تركيزه والموارد المتاحة؛ وهو ما أسهم في رفع الوعي الديني في المجتمع: الإخوان عن طريق رعاية النشاط الإسلامي-السياسي على أساس بنية تحتية مشتركة فعالة، والأزهر عبر تعزيز العبادة وفرض الالتزام الديني وتعزيز مقاومة الجهود الحكومية المتواصلة لتحقيق إصلاحات أساسية في مؤسساته ومناهجه بناء على وضعه القانوني المعترف به وعلاقته الوثيقة مع القصر. (25)
وثابر الأزهر للحفاظ على موقفه كقلعة للتعليم الإسلامي العالي، إلا أنه فشل في منع تأسيس التعليم الأكاديمي العلماني العالي، وأجبر النظام التعليمي العلماني للتنافس مع نظامه التعليمي الديني المواز الممول من الدولة، والذي يمتلك الحق في تشكيل الإجماع العام في مسائل الدين والأخلاق. (26)
وهَمَّشَ الحفاظ على مكانة الإسلام كدين للدولة البديل الراديكالي الذي اقترحه عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، خاصة بعد تعثر أداء الحكومة البرلمانية الجديدة. واتسمت حياة مصر الداخلية، بعد تأسيس الملكية الدستورية في عام 1923، بالهزال السياسي والعنت الاجتماعي-الاقتصادي؛ (27) وهو ما زعزع نموذج التحديث الذي يزعم أن قوة التقليد تتناقص مع تزايد تنمية المجتمع. (28)
ودفع اهتمام الحكومة المصرية الضئيل بتحقيق العدالة الاجتماعية، والذي يعود إلى انشغالها في النضال من أجل تعريف الذات الوطنية والخلفية النخبوية لأعضائها، القطاعات الأقل حظا في المجتمع، وبخاصة الأفندية (الطبقة الوسطى الحضرية المتعلمة)، إلى اللجوء إلى أفكار متطرفة في نهاية العشرينيات. كما مهد الطريق لصعود أيديولوجيات فوق وطنية زعمت أنها أصيلة وقوية سياسيا، أي الإسلاموية (الإخوان) في المقام الأول والعروبة. وتعززت شعبية هذه الإيديولوجيات بالكتابات الفكرية في الثلاثينيات التي أعادت التأكيد على أهمية التراث المصري الإسلامي. (29)
ووصفت الكتابات التي احتفت بالإسلام في مصر خلال فترة ما بين الحربين، في دراسات سابقة، بأنها «أزمة توجه» و«نهاية العصر الليبرالي». (30) وفي دراسات لاحقة، وصفت تلك الكتابات باعتبارها «انسحابا تكتيكيا» يهدف إلى إيصال رسالة ليبرالية في رسالة عبر إطار تقليدي مألوف لدى الجماهير. (31) وتؤكد دراسة حديثة أن الكتّاب المصريين كانوا حريصين على فتح حوار مع قطاعات واسعة من المجتمع، بجانب قناعة فكرية أن «الإسلام يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تطوير ثقافة مصرية حديثة»؛ وهي وجهة نظر يسميها إسرائيل غرشوني وجيمس جانوسكي «إعادة توجيه وظيفية». (32) وتشترك جميع تلك الدراسات، بالرغم من تأكيداتها المختلفة، في نقطة انطلاق واحدة؛ وهي أن الواقع المصري بين الحربين العالميتين كان على مفترق طرق بين العالم القديم وبين العالم الجديد، مع عدم امتلاك القدرة والإرادة لتفكيك دعائم النظام التقليدي. واتضح هذا، من الناحية العملية، في اندماج جزئي فقط للأقلية القبطية في المجتمع الإسلامي السائد بالرغم من جذورها التاريخية العميقة في مصر ومشاركتها في نضال البلد من أجل الاستقلال الوطني. وجرى الحفاظ على القيود القديمة، مثل حق الأقباط في بناء أو إصلاح الكنائس، وتوفير تعليم مسيحي ممول من الحكومة. (33)
ولم يكن المعيار الأساس في دراسة التاريخ الثقافي اتساق المؤلف الأيديولوجي؛ ولكن درجة تأثير كتاباته على الخطاب الثقافي والمجتمع بشكل عام. وانطوى الاهتمام بالتراث الإسلامي الذي تجلى في الكتابات المصرية في الثلاثينيات، بالرغم من كونه عقلانياً من حيث الدراسة النقدية للنصوص الدينية، على حجج ليبرالية في سياق حافظ على الاتصال مع ما يعده المجتمع مقدساً. (34) فعلى سبيل المثال، عَرَّفَ الكاتب البارز د. محمد حسين هيكل، وهو رئيس تحرير جريدة «السياسة الأسبوعية»، كتابه «حياة محمد» (1935) بأنه عن العصر الذي توج فيه الرسول كنموذج للإسلام الأخلاقي والعقلاني. وفي الوقت نفسه، انتقد هيكل الثقافة الغربية بشدة لكونها أيديولوجية مادية. (35) واُستقبل الكتاب استقبالا إيجابيا في كل من الدوائر الثقافية والدوائر الإسلامية، وأكثرهم من فئة الأفندية الذين فضّلوا الحفاظ على الهوية الأصلية للبلاد على أساس الإسلام والعروبة. (36) كما حصل الكتاب على مصادقة دينية؛ لأن تقديم الكتاب كتبه شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي (1881-1945)، وهو شيخ تقدمي كان مهتما بإدخال التخصصات الأكاديمية الحديثة في مناهج الأزهر. (37) وفي حين صادق المراغي على استخدام منهج البحث العلمي الغربي الحديث لدراسة عصر محمد، أعاد المراغي تأكيد وجهة النظر التقليدية بأن النبي محمدا كان زعيماً روحياً وسياسياً في الوقت نفسه. ومن ثمّ، أعاد صياغة الرأي الأحادي عن الوحدة العضوية للإسلام كدين ودولة. (38) وفي الواقع، هُوجم المراغي من علماء آخرين؛ ولكن منصبه الرفيع كشيخ الأزهر حفظ له سلطته الدينية في الساحة العامة، في حين أن الدعم الذي تلقاه من الإخوان كان عاملاً آخر مهماً. (39)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com