د. سلطان سعد القحطاني
النشأة:
تقتضي منا الضرورة البحثية أن نعطي لمحة عن ظهور الفن الروائي في عالم تمثل الأمية 90% من سكانه في الجزيرة العربية في بدايات النهضة، باستثناء منطقة الحرمين الشريفين، وهذه تمارس ثقافة عربية إسلامية تقليدية،تعتمد في مفاهيمها على القصة- بشكل عام- في اتجاهين، متقاربين ومتباعدين في نفس الوقت، فإما أن يكون السرد تاريخياً يميل في الغالب إلى الحكي الشعبي، وإما أن يكون حكاية منسوخة من التراث، كألف ليلة وليلة، وما شابهها، وينتهيان في النهاية إلى التسلية على لسان العجائز والرواة الشعبيين،كما هو متعارف عليه في ذلك الزمن، فلم تكن الرواية من علوم العلماء ولا يحظى الراوي لها بقيمة علمية ولا أدبية في المجتمع، وبالتالي كان الأديب يتحاشى الوقوع في هذه التهمة الاجتماعية، يكابد وعيه الثقافي من جهة، ويخشى هبوط قيمته الثقافية من جهة أخرى، فيتجه إلى نظم الشعر والمقطوعات التقليدية، من المسامرات والرسائل الإخوانية(1) ومن هذا المنطلق لم يكن أحد يجرؤ على تجريب الرواية التي لم يكن مصطلحها قد ثبت في العالم العربي(2)فضلا عن السعودية كبلد متخلف عن تلك البلدان، وكان حدوث الحرب العالمية الأولى( 1916) جرس إنذار في العالم بمقدم تحول جديد في البنية العالمية، وإيذاناً بمقدم حداثة فرضتها القوى العظمى في العالم؛ وأدرك ذلك الأدباء والمفكرون، ودار الجدل حول هذه القضية بعد التقسيم وتغير الأنظمة التقليدية، وكان من بين هؤلاء عبد القدوس الأنصاري الذي رأى أن التحرر من النظام التركي يتطلب منه ومن رواد النهضة أن يبدأ كل منهم بوضع استراتيجية جديدة لنظام التعليم بناء على وضع قواعد حديثة للغة، وكان أول مشروع بدؤوا به ناد أسموه نادي الخطابة العربية، دربوا فيه الطلاب والمعلمين على الخطابة باللغة العربية الفصحى غير المتقعرة،لكن الأنصاري وجد أن الأوان قد حان لوجود القصة التي أدرك فائدتها – بشكل عام- حيث يرى أن القصة أصبحت ضرورة في هذا الزمن، لنساير الآداب العالمية التي اهتمت بها، من جهة، ولقربها من حياة الإنسان من جهة أخرى- على حد تعبيره- (3) ومن هنا كانت المحاولة الأولى في المملكة، قبل أن تأخذ الدولة هذا المسمى الذي ضم أجزاءها تحت مسمى واحد بسنتين،لذلك نجد أنه قد كتب على غلافها( أول رواية ظهرت في الحجاز) فأصدرها تحت عنوان( التوأمان)(4) ومختصرها: رجل طاعن في السن لم يرزق بذرية إلا على كبر، ورزق بتوأمين، فريد ورشيد، فيد اتخذ الثقافة الغربية عنوان حياة، ورشيد اتخذ الثقافة العربية الإسلامية منهجاً له، فأفاد أمته، وفريد مات في إحدى حانات باريس ولم يفد أمته(5) والأنصاري يعني بذلك انشطار العالم إلى شطرين( شرقي عربي، وغربي أجنبي) بعد الحرب العالمية الأولى، كنتيجة لتقسيم( سايكس بيكو) وقد طرح فيها فكرته حول هذه التقسيمات شرقاً وغرباً وعلينا أن نبني أنفسنا بثقافتنا ولا ننجر خلف أحد منهما، فلنا مقوماتنا وديننا الآمر بالعلم، ونبذ الجهل. وبالرغم من أن الرواية لم تكن ابناً شرعيا معترفاً به في عالم الأدب والأدباء في ذلك الوقت إلا أن هذا العمل الذي أطلقنا عليه( رواية) جوازاً، وقد سوغت له أولويته في المشهد السردي، بصرف النظر عن فنيات الرواية ونظام بنائها الحديث، وغلبة المضمون على الشكل البنائي للرواية، فقد نفدت الطبعة الأولى، وعددها ثلاثة ألاف نسخة في مدن الحجاز الثلاث( مكة والمدينة المنورة، وجدة) في أقل من سنة واحدة، وهذا دليل على شغف المثقف بالأدب الحديث في وقت مبكر، بالرغم من سيطرة الأدب القديم، وخاصة الشعر والمقامات، وأحاديث السمر، وطرح القضايا الفكرية، ولم يكن مصطلح الرواية قد أخذ مكانه في الأدب العربي، ومن العجب أن نجد نصوصاً قصيرة وأخرى طويلة تسمى( رواية) فيما تم نقده في الصحافة التي اهتمت اهتماماً كبيراً بالأدب الحديث،وخاصة صحيفة ( صوت الحجاز ومجلة المنهل) وغيرهما من الصحف والمجلات، وكان كبار الأدباء يعملون في التعليم والصحافة على وجه العموم، والهم الأول كان للتعليم، سواء فيما يقومون به أو ما يكتبونه، وكان من أوائل أولئك الأستاذ أحمد السباعي، الذي وهب فكره وقلمه لتطور هذه البلاد، وكان يرى أن التطور ليس مقصورا على فئة دون أخرى، وكان السباعي مدرساً فمديراً لعدد من المدارس، وصاحب مجلة قريش، وهو أول من قام بعمل منهج للقراءة بدلاً عن المنهج المصري الغريب على الطلاب السعوديين (6) لكن السباعي وأمثاله من الأدباء الناثرين المرموقين يتهيبون كتابة الرواية، لسببين – في نظري-، الأول: أنهم يؤمنون بأن الرواية عمل جبار لا يمكن التساهل فيه،وليس متاحاً للقدرات المتواضعه، والثاني: أنهم يدركون أن الرواية تتميز عن غيرها من الفنون في الأسرة الأدبية بميزة لم يدركوها، فابتعدوا عن ذلك وكتبوا أعمالا سردية سموها قصة، لكن النقد سماها رواية فيما بعد، والعك س هو الصحيح. ولأن الظرف الزماني يحتم على الأديب المشاركة فالنهضة العلمية التربوية، فقد كان الاتجاه منصباً على التعليم – بشكل عام- والمحاولات الأولى وجُهت وكُرست للتعليم، مع تفاوت في القدرة السردية، سواء في الرواية أو في القصة القصيرة(7) وكان المصدر في ذلك النقد والتحليل يستند إلى الفعل العربي القاموسي التراثي (روى)وليست بفعل التقنية الروائية،فالراوي في التقنية الروائية الحديثة لا يعني المدلول التراثي بمعنى( ناقل الخبر، أو ناقل الماء للري) فالراوي اليوم جزء من مكونات الرواية وليس هو كل ما يقوم به شخص ينقل الأخبار، كما هو الحال في رواية الحديث أو رواية القصة الطويلة ذات الاتجاه الواحد الأفقي في السيرة والتاريخ وعموم السرد غير الرواية (8) وإذا كان النقد في تلك الفترة من عمر الرواية العربية والسعودية – على وجه الخصوص- قد ركز على هذا المفهوم فإن المصدر لذلك النقد استند على ما ذكرنا الآن،(9) وكان ذلك النقد قد عرقل مسيرة الرواية أياً كان نوعها ، فلم يصدر في تلك الحقبة أكثر من ثلاث روايات، ذكرنا الأولى منها ، والثانية كتبها أحمد السباعي بعنوان( فكرة) واستند فيها على خيال واسع يمثل أحلامه في الحياة، من جهة، ومما وجده في البلاد العربية المجاورة من جهة أخرى، كمصر وبلاد الشام، فكانت البطلة تسافر وتعلم أبناء القرى والأرياف، وتحاور الرجال، وتلقن بعضاً منهم الأخلاق والقيم العربية الأصيلة(10) وكان النقد والتجني على هذا الكاتب العبقري ذي الأفكار المتقدمة مثار جدال بين المثقفين على صفحات الصحف، حتى أُوقف عدوه اللدود، أحمد عبد الغفور عطار، من الكتابة، مما اضطره (عطار)إلى السفر للقاهرة ليصدر صحيفة من عدد واحد بعنوان( البيان) 1951، وزعها على مناصريه، وفي المقاهي ضد السباعي ،وهذه الفترة شهدت رواية ثالثة بعنوان( البعث) لم يستطع النقد الجائر أن يقف لها بالمرصاد، ولا لعنوانها المثير في عالم العقيدة السطحية، والسبب شخصية صاحبها(11)وبطلها شاب ذهب إلى الهند للاستشفاء من مرض السل، وأعجب بالتقدم في مظاهر الحياة المدنية والصناعية والتقدم العلمي في الطب وغيره، وكانت تحتوي على كثير من النقد الاجتماعي والأنظمة المتخلفة في بلاد المؤلف، واقتراح الحلول لها، ومنها ما حققه المؤلف نفسه رحمه الله، من ضمن مجموعته التجارية، كمصنع الجلود التي كانت تذهب سدى بعد موسم الحج ، يقول في لقاء أجريته معه في عام 1981: والان انظر، الحلم أصبح حقيقة(12) كانت هذه الحقبة من تاريخالرواية تتأرجح بين القبول والرفض، والهم الأول كان التعليم، والجو الأدبي كان مشحونا بالتطلعات إلى أدب حديث يحفظ للبلاد مركزها الأدبي بدلاً من تطفلها على الرواية العربية وأدب المهجرين( الجنوبي والشمالي) والنقد لم يثبت على مصطلح يحفظ للرواية حقها كجزء من الأدب له خصوصيته، لكن القصة بدأت تنشط بشكل ملحوظ في هذه الآونة، بين قصة قصيرة، وقصة مترجمة، نبغ فيها عدد من الوافدين، كأحمد رضا حوحو من الجزائر، ومحمد عالم الأفغاني من أفغانستان، وبعض المترجمين غير المحترفين، وقد فتحت الصحف والمجلات ذراعيها لتلك المترجمات وشجعت أصحابها(13) في سبيل إيجاد أرضية فنية لظهور رواية حديثة من ضمن الإطار العام للرواية العربية، وهذا ما سنجده في الصفحات القادمة من هذا البحث، حيث تأثر كتاب الرواية بالأدب العربي الرومانسي، عند كتاب الرواية العربية والمترجمة، حيث كانت صوراً لكتاب سبقوهم، ولكن يحمد لهم أنهم غيروا وجهة الرواية من التعليمية إلى الفنية بوجود رواية تعتمد في بنائها على المثلث التصاعدي،وبذلك تغير المفهوم وأصبح للرواية شخصيتها الاعتبارية، قبل أن تدخل في الطور الثالث..