ليس من عادتي الانشغال بتجميد اللحظات وتعليبها في صور وتعليقات؛ لكيلا أفوّت على نفسي متعة الغرق في الجمال والتماهي مع تفاصيله، ولست أحفل بتخليد تلك اللحظات؛ لأنها حتمًا - إن كانت جديرة- ستُخلد نفسها فينا؛ لذا آثرت الصمت طيلة فترة ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية: دورة القدس-نبيل خوري، الذي أسدل ستاره الأربعاء 10 مايو - أيار 2017م، في رام الله.
لكني الآن أكتب بوصفي ممن ينتظرون - بشغف- لكلّ منجز فلسطيني خالص لوجه فلسطين أولاً، وبصفتي باحثة في الرواية الفلسطينية ثانيًا. يجب أن نتفاعل، وعلى كلّ من له اهتمام بالشأن الثقافي عمومًا أن يتناول هذا الحدث، ليس بدافع التطبيل الوطني الفلسطيني أو التضامن العربي؛ فتلك شماعات بالية، أظنها كُسرت منذ زمن بعيد، بل لأن ما وقع في رام الله حدث جدير بالكتابة على كلّ المستويات، ومولودٌ بكرٌ، يحتاج منّا إلى الرعاية والإحسان والنقد البنّاء قبل أن نسلط عليه سيف ألسنتنا الجارحة.
وسأركز فيما يلي على نقاط محددة، متضمنة بعض المقترحات، وهي موجهة - ابتداءً- إلى وزارة الثقافة الفلسطينية، ممثلة في الوزير الدكتور: إيهاب بسيسو، وإلى القائمين على هذا الملتقى، والمهتمين بنهضة الثقافة الفلسطينية من الفلسطينيين والعرب على السواء.
* حول اختيار شخصية ملتقى دورة القدس - نبيل خوري:
الذي فهمته أن آلية الملتقى ستنتقل دوريًا بين المحافظات مع اختيار الشخصية المحتفي بها، ويبدو أن الابتداء بالقدس كان لمكانتها العظيمة، وترسيخًا لهويتها، ودحضًا لمحاولات تهويدها، ولكن مع إكباري للشخصية المحتفي بها وتثميني لأثرها العظيم في تغيير خريطة الرواية العربية، فإن الأولى - في رأيي- تقديم دورة حيفا - إميل حبيبي، لعدة أسباب: حبيبي ولد عام 1921م - هذا لمن يريد أن ينظر من منظار التسلسل الزمني- والحق أنني لا أحفل بهذا المنظار مطلقًا، وإنما أحفل بسبق حبيبي الزمني في مجال فتح مدرسته الخاصة للرواية العربية، فهو بشهادة النقاد: عرّاب الرواية العربية الجديدة.
[مقترح: أتمنى أن تكون الدورة القادمة دورة حيفا-إميل حبيبي]
* حول كلمة الدكتور بسيسو:
جرت العادة أن تكون افتتاحية الملتقيات محض (إتيكيت)، شكليات، يقص فيها المسؤول شريط الكلمات، ليفتتح أعمال الدورة، لكن الوزير الشاعر كان مختلفًا كعادته؛ إِذ حدد في هذه الكلمة - باذخة المعنى- أطر هذا الملتقى، وأغلق أفواهًا وأبوابًا كادت أن تُفتح على هذا الملتقى قبل أن يرى النور، ولست أبالغ إن قلت: إن كلمة بسيسو ورقة عمل، كان حقها أن توضع في جلسة الملتقى، المعنونة بـ (سؤال الهوية وتحولات المكان).
* كيف نُسهم في تنزيل هذا الملتقى في منزلته التي يستحقها من سائر الملتقيات العربية؟
1- اللجان: فيما يبدو أنه لم يُعلن عن أعضاء اللجان الثقافية والتنظيمية للملتقى، وفي تقديري هذا يقلل من فاعلية الملتقى، مع إدراكي رغبة المنظمين في أن يكون العمل مؤسساتيًا، لكن ذلك لا يمنح المشروع مكانته المرجوة؛ لذا من الأكمل أن نؤثثه تأثيثًا لائقًا، ولا شك في أن الإعلان عن أعضاء اللجان يمنح الملتقى كثيرًا من المصداقية.
2- دراسة تجارب الآخرين في مجال التحضير للملتقيات: والحق أن إفادة وزارة الثقافة من تجارب الآخرين - مؤسسات وأفرادًا- ظهرت كأبهى ما يكون في هذا الملتقى وانعكست ظلالها في أغلب التفاصيل، ولا شك في أن الاستمرار في ذلك سيسهم في صقل هذا الملتقى أكثر، وسيفتح شهية الوزارة لخدمة مجالات ثقافية أخرى.
3 -الدعوات: الدعوة العامة، كانت في 5 مايو - أيار 2017م - حسب اطلاعي- وهو وقت غير كافٍ، ولا يمنح الملتقى حجمه الذي يليق به. أدرك أن تقديم الدعوات إلى الكتّاب في الخارج كان في فترة سابقة جدًا، لكن المعوّل عليه أكثر هو أن يُعلن عن الملتقى لجميع المهتمين بمدة كافية؛ بحيث يُطرح عنوان الملتقى ومحاوره، ليتقدم من يرغب في المشاركة بملخص ورقته، فيتسنى للجان النظر فيها وترشيح ما يمكن أن يضيف للمشهد الثقافي الفلسطيني.
4- جدول الأعمال: الجلسات متناغمة ومتسقة فيما بينها، وهذا التناغم تسرب وامتد في جسد البرنامج المرافق للملتقى، وإن كان لي ملحوظة فيمكن أن تكون على عنوان الجلسة المعنونة بـ(تحديات النشر والتوزيع وحقوق المؤلف في العالم العربي)، فمع بالغ التقدير لمن انتقاه، والإكبار لتجربة أصحاب الأوراق المقدمة وخبرتهم الكبيرة في هذا المجال؛ فإن العنوان مراوغ، ينصرف الذهن معه إلى شقين: شق تجاري وشق قانوني، حضر الأول ومُثِّل تمثيلاً رفيع المستوى، وغاب الثاني غيابًا لافتًا، دون أن أغفل حضوره الضمني في أوراق الناشرين، ومع ذلك كان من الضروري أن يستضيف الملتقى قانونيًا صِرفًا، لا سيما في ظلّ غياب الثقافة الحقوقية لدى بعض الكتّاب وبعض الناشرين (التجّار)، فعندما نكتب: «...وحقوق المؤلف» فعلينا أن نكون أوفياء لهذا العنوان، كان ينبغي أن نسمع - نحن الجمهور- صوتًا مختصًّا، ينقل وجهة النظر الحقوقية الصرفة، وكان ينبغي قبل أن نعرف عن تحديات النشر والتوزيع أن نعرف ما هي الحقوق أصلاً (حقوق المؤلف وحقوق الناشر)، ومن ثمّ نخوض في التحديات، وذلك - حسب علمي- لم يحدث.
5- التوصيات: نضطر مع هذا الملتقى العجائبي أن نفتح باب التخمينات والفرضيات على مصراعيه؛ فنحن شاهدنا بعض المقاطع، وقرأنا بعض التعليقات، ولم نسمع التوصيات التي خرج بها هذا الملتقى! فأرجو إن كان ثمة توصيات، أن تتفضل وزارة الثقافة - مشكورة- ببثها عبر وسائل التواصل الخاصة بها، أو أن تقدمها لنا في كتاب مع أوراق العمل وملخص لمجريات البرنامج المرافق للملتقى، وإن لم يكن للملتقى توصيات فإنه من الأولى أن يسعى رواد هذا الملتقى إلى لملمتها، وإخراجها لنا، شأنها في ذلك شأن أرقى الملتقيات العالمية والعربية.
* المدهش في الملتقى:
1- توقيت الملتقى:
تقاطعُ الملتقى مع أحداث ثقافية ووطنية مفصلية أورثه زخمًا هائلاً.
لحظة!
ليس هذا هو المدهش! فقد اعتدنا على هذه التقاطعات، بل بتنا نفتعلها أحيانًا، لكن الذي يُبرّئ ساحة القائمين على هذا الملتقى من الافتعال، استحالة أن يكونوا على علم مسبق بأن الأسير مروان البرغوثي - مثلاً- كان يفكّر بقيادة إضراب مفتوح عن الطعام؛ ليتزامن ملتقاهم مع إضراب الأسرى، ملتقاهم الذي بدأ التحضير له منذ زمن بعيد.. بعيد جدًّا!
المدهش، هو أن هذا الزخم لم يطغَ على روح فكرة الملتقى - كعادتنا الفلسطينية المخجلة- لم تتلاشَ الرواية في خضم تلك الأحداث السياسية، لم يغرق روائيو وروائيات فلسطين في بحيرة الوطنية، لم يتلاشَ القادمون العرب في أروقة التضامن مع القضية، ولم تعلُ قامة البرامج الموازية على قامة الرواية، والأهم من ذلك لم ينسَ الوزير بسيسو ما جاء من أجله!
لقد ظلّت الرواية حاضرة، بهية، متربعة على عرش ملتقاها الأول بجلال أخّاذ، في مختلف جلسات الملتقى، وعلى هامش برنامجها الموازي كذلك.
2 - تكسير الأصنام:
- صنم الضحية: على غير العادة، لم تمارس الثقافة الفلسطينية دور الضحية المغلوب على أمرها، ولم تتمسح - أكرمكم الله- في أحذية المارّة! لقد شبّت الثقافة الفلسطينية عن طوقي العزلة والانكسار، وبدأت تصنع نفسها، يا أيها الوزير الشاعر بسيسو، يا ربعي المدهون، يا يحيى يخلف ويا كلّ الجنود المجهولة، شكرًا فقد كسر هذا الملتقى صنم الضحية الأزلية فينا، آمل أن تُحطّم الملتقيات القادمة كلّ الأصنام..!
[مقترح: آمل أن تُحطّم الدورة القادمة صنم الرمز - البطل]?
- صنم الأنوية: وهو أمر لافت للغاية، لم تعتد عليه الثقافة الفلسطينية - أيضًا- فلا شك أن كلّ الأفكار العظيمة والمشروعات الكبرى تولد - ابتداءً- من رحم فردي، وتنتقل إلى المؤسساتي، لكن الذي حدث في الملتقى أننا لم نسمع - حتى الآن على الأقل- من يقول: أنا صاحب الفكرة، أنا فعلت، أنا، وأنا...!
[مقترح: إذا كان هناك من سمع أحدهم يقول: انا...! لا تخبروني؛ فإنني غارقة في الدهشة!]?
ختامًا: أتمنى ألا يقول قائل: (مش كتر خيرهم عملوا ملتقى؟!)، لا!
(مش كتر) خيرهم يا سيدتي - سيدي. لهم وافر الشكر على هذا الجهد الجميل، لكن من لديه طموح البقاء عليه أن يحفر أكثر، فكيف إن كان البقاء بقاءين:
* بقاء؛ لإثبات وجود.
* بقاء؛ لتكسير أصنام داخلية (تألّهت) على مدى عقود في الثقافة الفلسطينية.
لن نساعد أنفسنا إن قلنا لهم بفلسطينية بيضاء: (يخْلِف عليكم، وكتّر الله خيركم!).
كان الله في عونهم! وكلّ ملتقى وأنتم بخير.
- آمنة حجاج