د. جاسر الحربش
زعم أحدهم قبل أيام أن صاحب مكتبة في الرياض كشف ساحرة متلبسة بالجرم المشهود كانت تنوي تطليق زوجين. لا أشكك في الخبر كحادثة، ولكنني أقول إن الساحرة المزعومة ومن كشفها وشهود الحادثة جميعهم يعيشون في مفاهيم عصر لا تناسب أية خطة تحول وطني تنموية على الإطلاق، لأن هذا المفهوم يخضع لتأثير القدرات الخارقة لما وراء القوى المتوفرة للفهم والقياس العلمي.
نفس الاستنتاج ينطبق على تلك الشخصية الدينية الاعتبارية عند العوام التي زعمت أن طوفان تسونامي في إندونيسيا أهلك مئات الساحرات من العاملات الإندونيسيات سابقاً في المملكة، مما جعل مئات المرضى في المستشفيات السعودية ينهضون للتو والساعة معافين سالمين، لأنهم كانوا ضحايا سحر الخادمات السابقات اللواتي غرقن في الطوفان الإندونيسي.
في المجتمعات المتخلفة يستطيع متاجر واحد بالخرافات والشعوذة والرؤى والأحلام وإرجاع كل مصيبة إلى سحر أو عين أو مس أن يمسح من عقول مئات المواطنين كل الأرقام والجداول العلمية التي تحاول بها خطة التحويل الوطني إقناع الجماهير وكسب حماسهم.
كلنا أصبحنا ركابا في عربة رؤية طموحة لها مجلس أعلى للتخطيط والتنمية، والهدف المنشود نقل البلد من عقلية الاستهلاك الريعي إلى الإنتاج والاعتماد على النفس.
حسب الظاهر يبدو أن خطوات رؤية التحول الوطني محسوبة بالمليم والميلليمتر والثانية في النواحي التحصيلية والاستثمارية، فهي بذلك تركز على النواحي التي يمكن ترقيمها وتدقيقها على الجداول والرسوم البيانية.
بكل تواضع وإخلاص أزعم أن تركيز الرؤية بهذه الطريقة يشبه الرؤية بعين واحدة، وذلك لا يكفي لاستيعاب المسافة الكاملة بكل التعاريج والمطبات ومفاجآت الطريق.
الرؤية بالعين المادية مهما كانت ثاقبة وحادة تنقصها أختها العين الأخرى، العين التنويرية والفكرية والتربوية.
وجود طواقم تكنوقراطية مختارة في مكاتب التخطيط لا يمكن أن يحدث نقلة إيجابية في مفاهيم الإنتاج والاستهلاك عند مواطن مسخت من عقله وشوهت هذه المفاهيم لعشرات السنين.
أساطين المتاجرة بالعزلة الثقافية والتحليل والتحريم وتجار الخرافات والشعوذة والأعشاب والزيوت المنفوث عليها وفيها وأدعياء الرقية وتفسير الرؤى والأحلام، كل هؤلاء صنعوا لأنفسهم في عقول وقلوب العوام أماكن لا تصل إليها الأرقام والجداول الحسابية بسهولة.
العقلية الشعبية المتوفرة عندنا -حالياً- ترتاح للمتطبب بالأعشاب والحجام والكاوي أكثر مما ترتاح للطبيب والصيدلاني وعالم النفس والمختص في الأشعة السينية والمغناطيسية والحاسب الآلي.
تكتمل المشكلة حين يتمكن تجار الماورائيات والخرافات من مهارات التواصل الاجتماعي الحديثة ويجيدون استخدامها أكثر من الاستشاريين في المجلس الأعلى للاقتصاد والتنمية ومن كل الأطباء والمهندسين وعلماء الاجتماع.
نحن بحاجة حقيقية إلى مجلس أعلى للتنوير والتنمية الفكرية.