ناصر الصِرامي
في نهار ملبد بالغيوم، كثيف المطر، متشبع بالمطبات الهوائية، وصلت إلى ولاية متواضعة في أمريكا، «وست فرجينيا»، ولاية مناجم الفحم والمجندين الأمريكيين، كانت مقارنة بالولايات الأخرى متخلفة، وبسيطة، ومقارنة بالعالم الثالث جنة متقدمة بطبيعة ساحرة.
من الرياض إلى نيويورك، ثم بطائرة مروحية إلى ولايتين قبل وست فيرجينيا، ومدينتها الصغيرة، هانتغتون، بصراحة لا أدرى إلى اليوم، كيف وصلت واستقررت هناك؟، هل هي يد القدر، أم أنه الإصرار والإرادة؟!، أم دعاء الوالدين؟!، أم الشجاعة؟، أم جميعها..؟!.
حين أتذكر سكني الأول ولغتي الأولى ابتسم، ابتسم فرحاً، وابتسم مستغرباً، وابتسم منتشياً، وابتسم مفكراً بكل التفاصيل الصغيرة..
بسرعة مرت ستة أشهر، وهي الفترة التي منحني فيها «تركي بن عبدالله السديري»، رئيس تحرير جريدة الرياض حينها لدراسة اللغة، إلا أن لغتي الإنجليزية لا تزال مختلطة وركيكة، ستة أشهر اختلط فيها السعودي بالبرازيلي بالروسي بالكولومبي والياباني. لم أكن بعد بدأت فهم الماضي والمضارع والمستقبل الإنجليزي، وجدت من العيب العودة بلغة معطلة تماماً، خجل ربما.. لكنه محبط أيضاً!
ستة أشهر بالفعل لم تكن كافية.. بدأت أخطط الآن للتمديد والعصيان أو الامتناع عن العودة طبقاً للاتفاق مع رئيس التحرير الذي منحني الفرصة، كنت مضطراً للمناورة والمجازفة .. لا المواجهة!
أرسلت خطاباً بالفاكس - حينها - معتمداً من مكتب «الطلاب الأجانب»، أطلب ثلاثة أشهر إضافية، مرفقة بدرجاتي الإيجابية كطالب مبتدئ!
كان الرد طلب اتصال هاتفي، راوغت فيه كثيراً، لكن حين حان وقته، كنت بالفعل قد أنهيت إيجار شقتي وغيرت الجامعة وانتقلت إلى ولاية فلوريدا.
أنا الآن في «اورلاندو».. في جامعة منتصف فلوريدا أتلقى أول تجربة تعليمية حقيقية، وأسكن مع رفيق سكن أمريكي، وجدت إعلان تأجير شقته مشاركة على مجموعات «ياهوو» النشطة حينها. كانت ياهو التي أفلست مؤخراً، وصرفت تعويضاً محترماً للسيدة التي فشلت في انتشالها من الخسائر، كانت حينها هي مولد البريد الإلكتروني والإنترنت والمجموعات والاهتمامات للعالم، قبل «هوتميل» ميكروسوفت، وقبل أن يولد العملاق قوقل، كانت هي عنوان الشبكة العنكبوتية العالمية الأبرز، فقد كانت الإنترنت قد بدأت للتو حينها في تحقيق معدلات نمو وانتشار قياسية، الآن يمكننى رؤية أمريكا أو بعضها!
شحنت أسلحتى، وجمعت حججي، للبقاء في الولايات المتحدة لستة أشهر إضافية. اتصلت برئيس التحرير، أبلغته أنني بالفعل بحاجة للتمديد ولو لستة أشهر إضافية ودون راتب، إجازة بلا راتب،كرم تركي السديري لا ينقطع، خصوصاً مع وجود حجة مقبولة.
منحني ثلاثة أشهر إضافية، وثلاثة أشهر أخرى مشروطة بأن أرسل مواد صحفية من هناك للجريدة، تحقيقات ومتابعات وبعض الأخبار الفريدة أو الغربية.
كان اتفاقاً ودعماً مهنياً لا ينسى، بل ويستحق الاحتفاء والاحتفال. كانت «اورلاندوا» تضيق بموسمها الصيفي السياحي.. مدينة ممتدة تحوي كل عوامل الجذب السياحي، إلا أنها لم تجذبني أبداً.
أمامي مهمة.. «اورلاندوا» لن تساعدني، وكوني مغرماً بالأفلام الأمريكية، ونادراً أن تجد فلماً واقعياً أو خيالياً لا يمر بنيويورك وشوارعها، وسيارة الأجرة الصفراء، إنها مدينة الإعلام وأسواق المال أيضاً.
اخترت المغادرة إلى المدينة التي يرددها الأمريكيون «إذا استطعت العيش في نيويورك.. يمكنك العيش في أي مكان آخر بالعالم!»، تحدٍ جميل يستحق المغامرة، وبعون الثائر الكبير -الإنترنت- اخترت الكلية والسكن ورتبت الحجوزات..
استقررت في نيويورك، وبدأت أرسل بعض المقالات والتحقيقيات من شوارع نيوروك الفخمة وأحيائها المريبة...كتبت للراحل تركي السديري من هناك.. وقابلته هناك.. وعرفته إنساناً معلماً صبوراً واقعياً بين هنا وهناك...
بالمناسبة أتذكر جيداً أننى اشتريت تذكرة العودة إلى «الرياض» من مكتب الخطوط السعودية في ترامب تاور.. إلى «لقاء»..