د. محمد عبدالله الخازم
العمر له متغيِّراته حين يتقدّم، لكن متاعبها تتجاوز كبر السن، إلى متاعب وأمراض العصر التي أصبحت تشكِّل الهم الأكبر في مجال الرعاية الصحية. تمزح وتقول كيف يأتيني السكر والضغط وأبوك أكبر مني، يشرب الشاهي، نصف كوبه سكر ولا يبالي. اشتدت آلام الظهر عليها فقرَّر الجراح إجراء عملية، ورغم أنها تصنف ضمن الشخصيات المهمة من المرضى بحكم طبيعة عمل ابنها، إلا أنها فوجئت بموعد بعد تسعة أشهر تقريباً!
يا قوة الله يا ولدي، أنا أدري إذا كنت سأعيش أو لا؟
لم يقصّر الأصدقاء فبعد محاولات قدَّم الطبيب مشكوراً الموعد ليكون خلال شهرين، وكانت إجابتها؛ بركة يا ولدي، أحسن من تسعة أشهر.
استعدت للعملية وسافرت من القرية للمدينة بصحبة الوالد والبنات والأبناء، وفي اليوم الذي يسبق العملية كانت المفاجأة؛ لا تحضرين، لا يوجد سرير. ومرةً أخرى عادت عجلة الاتصالات ونفس الأصدقاء يبذلون الجهد لخدمة زميل يقدرهم ويعزهم ولولا أنها تاج الراس لما ألح عليهم بالطلب. وقبل غروب الشمس جاء الاتصال/ وجدنا سرير ولكنه ليس في غرفة كبار الشخصيات. لا بأس يا عزيزي، هي تطلب علاجاً وليس فندقاً!
وهكذا تم في اليوم الثاني إجراء العملية، والتي نرجو أن تكلّلت بالنجاح.
في مرضها تجلَّت أبعاداً روحانية، لا تخطئها عين المتأمل. الحب والود واللهفة في وجه وتعبيرات والدي التسعيني، فهو قلق عليها قبل وأثناء العملية، فرح برؤيتها سالمة بعد العملية، يمازحها ويلاطفها أثناء فترة الاستشفاء، يصر على زيارتها يومياً رغم معاناة تنقله وما تسببه له ركبه من متاعب الحركة وأوجاعها. والدي يرفض أن يقيم عند أبنائه في المدن المختلفة يومين أو ثلاثة، لكنه هنا لا يمانع من قضاء الشهر بعيداً عن القرية للتأكد من استعادة رفيقة دربه لعافيتها. هي في المستشفى وتحت تأثير الأدوية ومتاعب العملية تسأل عنه كل حين، توصي البنات والأولاد عليه. وعندما يتأخر قليلاً تعاتبنا على التأخير. الحب عشرة عمر، يمكن تأمله في اللهفة والقلق والترقب و الخوف والفرح والأمل...
وزاوية أخرى للتأمل؛ ود الأقران، رغم معاناة كل منهم بحكم الشيخوخة أو المرض، إلا أنهم يصرون على الزيارة. يحكون الحكايات والذكريات ممزوجة بالدموع أحياناً والضحكات أحياناً أكثر. يشفق عليهم أخي فيقول لهم لا داعي للتعب، سلامكم وصل، فأقول له دعهم يفعلون، فهذه الزيارات غذاء الروح وبالذات للآباء وللأمهات!
شكراً للأصدقاء والزملاء الذين كان لهم الفضل بعد الله في تسهيل مواعيد الوالدة وإجراء عمليتها في الوقت المناسب. والشكر أكتبه استثناءً - لتوصية خاصة من الغالية- لزميلتنا الدكتورة نسرين جستينيه. العرفان والحب والتقدير للإخوان والأخوات وكل المحبين الذين يحفون برعايتهم الغاليين الوالدة والوالد في شيخوختهم ومرضهم...
أكتب هنا ابتهاجاً بسلامة الوالدة وليس شكوى. لكن ذلك لا يمنع من تساؤل مر في طعمه؛ إذا كان الأمر كذلك مع مريضة لها اعتبارها في سجلات المستشفى، فما بالنا بمواطنين ليس لهم علاقاتهم في دوائر المستشفيات والإدارات؟ هل سيمرض الناس حتى الموت في قراهم ومدنهم، دون أن يجدوا العلاج أو الرعاية التي يستحقونها؟!
ألقاكم بعد رمضان، كل عام وأنتم بخير..