-1-
يعدّ الاقتصاد العامل الرئيس في الرؤى التنموية والنهضوية الحديثة، وعليه المعوّل اليوم في معالجة الملفات الخطيرة التي تؤرّق المجتمعات، كالبطالة والفقر والجريمة وما شابهها، لكن هذا لا يعني أنه العامل الوحيد، فثمة عوامل أخرى مسؤولة – على الأقلّ - عن ضمان استمرارية نشاط العامل الاقتصادي، وعن قدرته على تجديد نفسه بنفسه، وكسب قناعة الآخرين به ودعمهم له، وثمة محاولات تنموية ونهضوية في عدد من دول العالم لم يُكتب لها النجاح (أو لم يكتب لها النجاح الكامل في أحسن الأحوال)؛ لأنها فصلت العامل الاقتصادي عن منظومة العوامل الأخرى التي يحتاج إليها، وتعاملت معه كما لو كان جزءًا يملك القدرة على الاستقلال بذاته !
-2-
ويجيء العامل الثقافي في مقدّمة العوامل التي تحتاجها هذه الرؤى لتحقيق أهدافها البعيدة، فالثقافة قادرة في أقلّ أحوالها على مدافعة المادي أو تطويعه بما لأنساقها من قوة، وهي– كما تعبّر لوردس أريزب – ترفض التهميش والاختزال، وتأبى إلا أن تكون أساساً اجتماعياً تنهض عليه الرؤى والبرامج التقدّمية (انظر: نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات)، وعليه فالبعد الثقافي سيظل حاضراً في هذه الرؤى حتى مع غيابه أو تغييبه، إما على شكل عامل رئيس أو مساعد، وإما على شكل عامل مضادّ، ولو تتبعنا عدداً من التجارب العالمية التي حقّقت نجاحاً يمكن وصفه بالشامل لوجدناها قد استندت ابتداءً إلى البعد الثقافي، فسعت إلى قراءة ثقافتها، وتلمّس جوانبها التي تحتاج إلى معالجة، وإعادة صياغة المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية والاجتماعية لتتقاسم مسؤولية تأصيل القيم الخادمة للرؤية، ومراجعة المواقف والاتجاهات الغالبة على المجتمع، لاستثمارها أو لمعالجتها (كما في التجربة الماليزية على سبيل المثال) !
-3-
ثمة من يرى أنّ الثقافة تابعة للاقتصاد، فيتبنى فكرة الاهتمام أولاً بتجويد أداء العامل الاقتصادي ليتولى هو - من خلال منتجه المتنوّع لاحقاً - مهمة اختراق الثقافة وإعادة تشكيلها بما يخدم الرؤية التي يمثّلها، تماماً كما تفعل المدينة بابن القرية حين ينتقل إليها . ويؤكّد بعضهم هذه الفرضية بالنظر إلى «التاريخ الاجتماعي» الذي يشفّ عن الارتباط الوثيق بين (صورة الحياة) و(مخرجات العامل الاقتصادي)، وهذا صحيح ولا غبار عليه، ويمكن الاستدلال على صحته بسهولة، لكن المشكلة في هذا النوع من التعامل مع (الثقافي) أنه ينتهي بنا إلى تغيّر اجتماعي غير واعٍ، يكون فيه الإنسان (مفعولاً به) أكثر منه (فاعلاً)، وقد يكون التكوين الثقافي لفئة اجتماعية أو لتيار فكري في المجتمع عصياً على التغيير، فتكون النتيجة – والحالُ هذه - الانشطار بين شكل الكائن المنساق إلى المنتج الاقتصادي، ومعناه المتشبّث بتكوينه الثقافي، وهذا ما حصل بعد الطفرة النفطية التي مرت بها بعض دول الخليج، لقد تغيرت ملامحنا، وتغيرت عاداتنا أيضاً، لكن هذا التغيّر لم يكن واعياً بنفسه؛ لذلك خرجنا به من مشكلات إلى أخرى، وما نحاول اليوم معالجته من خلال رؤية السعودية 2030، وما تحاول بعض دول الخليج معالجته من خلال رؤى مماثلة، هو ناتج تلك الحالة الضعيفة من التعامل مع (البعد الثقافي) !
الأسئلة التي تقود إليها هذه المقدمة :
- ماذا عن البعد الثقافي في رؤية السعودية 2030 ؟
- وماذا فعلنا أو يمكن أن نفعل لجعله عاملاً رئيساً في تطبيقاتها، وتحقيق أهدافها ؟
- وما أهمية العمل المبكّر في هذا الاتجاه ؟
هذا ما سأحاول الإجابة عنه في الحلقة التالية.
- د. خالد الرفاعي