تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
وحافظت كتب هيكل اللاحقة، «الصديق أبو بكر» (1942) و«الفاروق عمر» (1944)، على اِشْتَمَال الديني للسياسة العالمية عبر القول إن الرسول وضع أسس الإمبراطورية الإسلامية، وأن حروب الردة كانت مُبررة لرفض المتمردين المسلمين دفع الزكاة إلى أبي بكر؛ وهو ما أدى إلى تهديد وجود الإسلام. (40) وقد اُعتبرت إعادة التأكيد على العقدة المستعصية، التي تربط الدين والدولة في الإسلام من قبل هيكل وكتاب آخرين بجانب ظهور كتابات إسلامية، السمة الغالبة على الخطاب المصري في الثلاثينيات وعززت الانشغال الفكري مع قضية الإسلام في الدولة. وعلى النقيض من ذلك، قدمت الليبرالية المصرية موقفا أكثر حزماً ضد تحدّ فكري أكثر بعداً تمثل في صعود النازية في أوروبا؛ ولكن هذه المعارضة الحازمة لم تساعد في تمكين حكومة مصر البرلمانية الضعيفة التي واصلت التعامل بشكل غير فعال مع مشاكل البلاد. وبحلول الأربعينيات، أصبح حزب الوفد الحاكم رمزا للقيادة الواهنة والسياسة الدنسة، بعدما كان في العشرينيات معبراً عن التطلعات لأجل الاستقلال والدفاع عن الدستور. وتعود نجاة النظام، إلى حد كبير، إلى عدم نضج منافسيه السياسيين المحليين؛ ولكنه واجه، من الناحية الفكرية، مطالب راديكالية على نحو متزايد للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي. وكان أبرز ممثل لهذا الاتجاه الفكري الجديد هو الشيخ خالد محمد خالد.
تمرد خالد محمد خالد:
كتاب «من هنا نبدأ»
الشيخ خالد (1920-1996) هو ابن عائلة من الفلاحين من محافظة الشرقية، وتخرج من الأزهر باعتباره داعية وعالم دين. وفي عام 1950، ترك التدريس وتفرغ للكتابة السياسية. وأسهم في تشكيل آرائه السياسية عاملان:
(أ) كونه ابن فلاح؛ وهو ما جعله يملك وعياً أصيلا عن مظالم الفلاحين والنظام الزراعي الإقطاعي بأكمله؛ و
(ب) تعليمه الأزهري، الذي كشف له جمود مؤسسة الأزهر وتعصبها.
ودعا خالد إلى أمرين:
(أ) اشتراكية معتدلة بهدف تشجيع العدالة الاجتماعية؛ و
(ب) رؤية أخلاقية للإسلام كدين دوره التوجيه؛ ولكن ليس الحُكم.
قدم خالد آراءه أولا في كتاب «من هنا نبدأ» (1950)، الذي تعرض للحظر على الفور من قبل الحكومة بسبب «نبرته الشيوعية» كما قيل، ثم زعم الأزهر لاحقاً بأنه يشكل هجوما على الإسلام. (41) ولكن جرى إلغاء الحظر بأمر من المحكمة بعد بضعة شهور، وسُمح بتوزيع الكتاب. ومن المثير للانتباه، إلى حد كبير، هو أن عنوان الكتاب كان يعكس مفترق الطرق الذي يواجه المجتمع المصري، عشية انهيار الحكومة القديمة وصعود النظام الثوري. ووفقاً لخالد، لكي يحافظ الدين على نفوذه على الجماهير، ينبغي عليه أن يستجيب لاحتياجات المجتمع المتغيرة، ومن ثمّ يحافظ على رسالته الأساسية أي تحقيق أقصى قدر من السعادة للشعب. العلماء (الذين أشار خالد إليهم بشكل سلبي كرجال دين) خانوا هذا الهدف بسبب الجمود الفكري والفساد. لقد طوروا نوعا من الجبرية الدينية أقنعوا عبرها الجماهير بقبول الفقر في العالم الدنيوي وانتظار المكافأة الحقيقية في الآخرة. وميّز خالد بين رجل الدين من جهة وبين الدين من جهة أخرى: رجل الدين أناني ومستبد وجاهل ويهدف إلى السيطرة على عقول الناس؛ ولكن الدين وحي إيثاري (محب للغير) وديمقراطي وعقلاني، ويهدف إلى تحقيق السعادة الدنيوية والمحبة كهدف أسمى. ويشير خالد إلى أن تاريخ المسيحية في أوروبا يثبت أن العلاقات التي تربط الدين ورجال الدين لا تكرس فقط الطاعة العمياء والجبرية؛ ولكنها تلوث أيضاً نقاء الدين. (42) تفسير خالد القيمي للدين جعله يرفض أهمية العلماء، فضلا عن فكرة إقامة حكومة إسلامية. واستند في قناعاته على حجتين رئيستين:
(أ) حجة خالد «الدينية-التاريخية»
رسالة محمد الدينية بشرت بالأخوة وتحرير الإنسان من العبودية. وفي حين أن محمدا أدى مهام دنيوية، مثل ممارسة القيادة القضائية والعسكرية، إلا أن هذه المهام كانت ضرورات اجتماعية اضطر للقيام بها من أجل رفاهية الجماعة. فلم يكن لديه رغبة متعمدة ليكون صاحب السيادة أو الحاكم؛ لأن منزلة النبي كانت تفوق غيرها. وهكذا، لم يؤسس محمد نظاماً مميزاً للحكم في الإسلام. ولذلك، فإن أية حكومة تنجز الهدف من تأسيسها، وهو تحديداً «رفاهية المجتمع»، تعتبر شرعية ومقبولة في الدين. وكانت هذه هي الحالة خلال عهدي أبي بكر وعمر؛ ولكنهما كانا شخصين استثنائيين. فقد كانت قدرتهما الممتازة في ممارسة الحكم تعود إلى الكفاءة الشخصية والتميز الأخلاقي، وليس لوجود حكومة دينية. وبعد وفاتهما وبزوغ المعارضة لخلفائهما، اختفت واندثرت تلك الممارسة ا لشخصية-الأخلاقية السامية في الحكم. وبدلا منها، انتشر الاستبداد السياسي والفكري، وأصبح ذلك أسلوب الحكم المعياري على أيدي حكام طموحين اختفوا تحت هالة من القداسة الدينية المزعومة، وصوروا أنفسهم كحاكمين بأمر إلهي. إن ممارسات أولئك الحكام لأفعال شنيعة ونسبتها إلى مصدر إلهي قاد الجماهير الجاهلة إلى الاعتقاد بأن الحرية تعني الحرية من الذنوب أي توجيه أي نقد للحاكم، وليس الحرية من القهر والظلم. الطغيان – يقول خالد - متأصل في أي شكل من أشكال الحكم باسم الدين، سواء في المسيحية أو الإسلام، ومجاله ليس الماضي البعيد فقط، كما يتضح من السجل السلبي لبعض الأنظمة العربية الحالية التي تدعي الحكم باسم الدين.(43)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com