تمثل نمطية القصيدة التي وصلت إلينا من شعر ما قبل الإسلام الجذور الوطنية التي تجسّدت هندسة في معمارية القصيدة التي كانت تستهل بالوقوف على الأطلال تلك الوقفة التي تذكر فيها المنازل والأمكنة والديار بما تحيل عليه من مواقف شعورية تجيش فيها بالحنين إلى مكان مغادَر أو منزل مهجور ما زال المرتحل عنه يحمل عنه ذكريات وحوادث تعالقت في ذاكرته تلك المقدمات الطللية التي فرضتها طبيعة الحياة غير المستقرة التي اعتمدت على قانون الرحيل والانتقال من مكان إلى آخر فالوقوف على الأطلال مثلّت في شعرنا جذور مفهوم الوطن بما يمثله الوطن من مكان (جغرافية) وذكريات نفسية مرتبطة ومواقف شعورية لتصبح مكوناً من مكونات الانتماء والهوية ولعل أول من وقف على الأطلال فقيل فيه أنه بكى واستبكى ووقف واستوقف الشاعر امرؤ القيس في مطلع معلقته:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

ومع ظهور الدين الإسلامي الحنيف واتساع رقعة الدولة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها وبنيت المدن ودور العلم وتنوعت الثقافة أصبحت الوقفة الطللية مكوناً من مكونات الذات العربية ونهجاً يسير وفقه الشعراء في العصور اللاحقة بما مثله من رابط فكري ويما يحمله من بعد إنساني وقومي يربط الإنسان بالمكان وبأهله مثلما غدا سمة مميزة للشعر الوطني وللتجربة الشعورية الوطنية في الشعر العربي لتصبح الأماكن والمدن ذات أبعاد ودلالات نفسية تربط الإنسان بأرضه وبذلك يصبح لذكر الاسم (المكان) دلالته الجغرافية الرامزة إلى انتماء نفسي أكثر من دلالتها الجغرافية يقول أبو تمام:

بالشام أهلي وبغداد الهوى

وأنا بالرقمتين وبالفسطاط إخواني

فالأماكن هنا ليست الحدود الجغرافية وحسب بل هي مواقف معبرة عن تجارب عاشها الشاعر.

وارتباط الشاعر بالوطن ارتباط يعبر عن وجود الذاتي بوصفه فرداً من كل فهو التعبير عن الوجود المرتبط بالأرض والمحيط الاجتماعي وهذا ما عبّر عنه دريد بن الصمة مشيراً إلى ضياع الفرد إذا فقد الارتباط الاجتماعي لأنه مرتبط عضوياً بالقبيلة:

وهل أنا إلاّ من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

ويرى المتنبي الوطن من خلال الحاكم معبراً عن ذلك بصرخته:

وإنما الناس بالملوك وما

تفلح عرب ملوكها عجمُ

ولدى ابن الرومي يصبح الوطن ذكرى تستعاد لأنها تعبر عن ارتباط الإنسان بملاعب صباه ومرتع شبابه فيصبح الوطن في الغربة الذات المفقودة فتتحول من مجرد أرض ومساحة مكانية إلى تاريخ وماض مرتبط بالذاكرة الفردية التي لا تنفصل بحال من الأحوال عن الذاكرة الجمعية

يقول في ذلك الشاعر ابن الرومي:

بلد صبحت به الشبيبة والصبا

ولبست فيه العيش وهو جديد

فإذا تمثل في الضمير رأيته

وعليه أفنان الشباب تميد

ومع ابتلاء الوطن العربي بالاستعمار والصهيونية يصبح الوطن كياناً يحمل داخل الذات المجبرة على المغادرة فالوطن يعجن في جسد المرتحل عنه قسراً ليتخذ الوطن صورة الإنسان بما فيه من جمال وخير وحق وتتوضح صورة الوطن الجسد لدى شعراء الأرض المحتلة فالوطن أصبح لدى الشعراء الفلسطينيين نبضاً يحمل في الصدر فهذا أبو سلمى يتحدث عن علاقة البعد والقرب للوطن فلسطين البعيدة قسراً وواقعاً والقريبة من نفس الشاعر أملاً بالعودة والرجوع يقول في ذلك:

وطني هل سمعت من خفق قلبي

أغنياتي وهل شجاك النشيدُ؟

قد حملناك في القلب وكنا

نتناجى وأنت دانٍ بعيدُ

وقد اتخذ الوطن مفهوم (الأنثى) على ما ترمز إليه المرأة من ارتباط عاطفي بين الرجل والمحبوبة. فالوطن وفق هذا التجسيد يتخذ من المرأة رمزية تختزل الحال العاطفية ليصبح تجربة مشتركة تنصهر فيها الذات بالجماعة لتصبح الأرض بوصفها الجسد الترابي الذي خلق منه البشر هي المرأة كونها الأم الوالدة أو الزوجة المنتجة للخصوبة والطفولة أو الحبيبة الحلم حيث تذوب فيها كل المشاعر والأحاسيس فتتبدى من خلال هذه الثنائية المرأة/ الوطن التجربة الوجودية الجماعية فيصبح الوطن بوصفه جسداً بعيداً والذات الفردية المتبعثرة كتابة لنغم يشترك فيها الجميع في تعبيرهم عن حالة جماعية يشترك فيها الأفراد يقول نزار قباني:

قادم من مدائن الريح وحدي

فاحتضني كالطفل يا قاسيون

احتضني ولا تناقش جنوني

ذروة العقل يا حبيبي الجنونُ

احتضني خمسين ألفاً وألفاً

فمع الضم لا يجوز السكون

لقد تطور مفهوم الوطن في شعرنا العربي من تعبير عن الذات الفردية إلى هوية وتجسيد انتماء إلى وطن يحمل نبضاً في الصدر إلى دلالة رامزة يحمل مفهوم المرأة الأنثى لينتقل من خاص إلى عام ومن مفرد إلى مجموع عبر انصهار مشاعر وتعاقب تجارب فرضتها عوامل تاريخ وتطور حياة.

- د. طامي دغيليب