ضعف الشاعر وقوته تتحسسها في كلماته واختياره لها وانتقائها بعناية وتوفيقه في استخدام الصيغ البلاغية من عدمها بطريقة ملفتة وباحترافية طبيعية ولدت معه بحيث تتسلل الحروف من فكره وتنساب من قلمه دون عنت أو تكلف كانسياب الحرير الخالص من بين يدي البزاز والحائك ! هكذا يشعر بها الناقد وتجري في نفسه مجرى الدم ويتذوق جمالها بحواسه الخمس دون استثناء ! ونزار حين يمعن في تفصيل الجسد الانثوي يكون موفقاً في وصفه الدقيق فلا يجد عنتاً فتأتي ألفاظه وصوره مقاربة لأن العاطفة صادقة في ذلك والتجربة حاضرة في المشهد كما يقول عن نفسه في مغامراته ! :
للمرة الأولى
في تاريخي النسائي الطويل ...
أما عندما تكون في غرض آخر فإنها تفقد تلك الانسيابية نوعاً ما فيثقل اللفظ وتتغير النغمة الموسيقية ويحسها القارئ المتذوق بجوارحه حين يقارنها بالأبيات الأخرى ! انظر إلى قوله :
أدمت سياط حزيران ظهورهم
فأدمنوها وباسوا كفّ من ضربا
فكلمة ( باسوا ) فارسيّة معرّبة ولفظة ثقيلة في النطق ليست هنا مكانها ولو قال ( قبّلوا ) لكان أجمل وأليق للسياق !
ونزار شاعر متناقض كل التناقض فهو محب كل الحب ومبغض كل البغض ! سهل وليّن الطباع منذ نعومة أظفاره وصعب وشرس حتى البذاءة في هجائه وخصامه ! يسير في اتجاه الشعارات الحماسية واستنهاض الهمم ولكنه يسلك اتجاه الرومانسية والحب الفاضح والإيحاءات الجنسية التي لا تنم عن قوة وطموح ! فهو لا يستطيع أن يتحمل معنى بيت الأخطل في قوله :
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم
دون النساء ولو باتت بأطهارِ
لأنه يعارض توجهه السلوكي والنفسي حتى وإن كان تحت صليل السيوف وأصوات البنادق !
النرجسية والأنا هما طريق ممهد نحو الرومانسية المطلقة لذلك لا يستطيع نزار أن يوغل في قصيدة ما لم يكن مطلعها رومانسي وغزلي في (القصيدة الدمشقية) حين يستهلها بالكأس والراح يسترسل في التناقض :
ألا تزال بخير دار فاطمة ؟
فالنهد مستنفر والكحل صبّاحُ
إن النبيذ هنا نار معطرة
فهل عيون نساء الشام أقداحُ
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواحُ
وبغض التظر عن الوافر وزحافاته وما يعنيني هنا فقط قوة وجرأة في استخدام اللفظ ووضوح المعنى باستعاراته وكناياته لأنه صريح في ذلك ومتفوق فيه، وكأنه ذكر المآذن حتى يرضي طبقة معينة من المجتمع! وأي عناق للمآذن هذا ؟! وفيه نهد ، ونبيذ ! الابتذال والتكرار الموضوعي جعل من بعض قصائده ليس لها مكان في الشعر وخصوصاً في الشعر الحر أو التفعيلة وكأنه كتبها دون مراجعة أو خلوة شيطانية، ولك في قصيدة (قطار التطبيع ) مثال على هذا الضعف فهي لا تعدو أن تكون قطعة من النثر كتبت على شكل قصيدة ! وجلّ كلماتها حشو لا فائدة منه ! غاية ذلك أن يندب ويهجو حال العرب وكأنه استمرأ على التصفيق والتشجيع على نفس النمط والطريقة التي تعود عليها منذ الصغر!
أما عروبيته وتأبينه العرب وتصويره للنكسات المتوالية فلا تخلو من خلط الإيحائات الجنسية بالرثاء واللوم فهل كان ذكره تفاصيل المرأة سخرية من الحكام ؟! أم كما قلت هو لون جديد وُلد معه وجُبل عليه ؟! فهو ليس بدعاً في ذاك الوقت من الشعراء الذين بكوا وتباكوا على حظ العرب والعروبة فهناك الكثير منهم والأكثر شهرة منه !
ولعلّه قصد العروبة وعينه على سوريا التي لا يذكرها إلا بالشام وفي هذه أيضاً علامة على التورية المتعمدة حتى لا يسخط الدكتاتور ثم يكون مآله التعذيب والسجن المؤبد إن لم تتخطفه أيادي الردى بفعل فاعل !
الرحلة مع الفتى الدمشقيّ طويلة ولا تخلو من المتعة، ونزار شاعر حقيق أن يخضع لمباضع الناقدين حتى بعد موته !
- زياد بن حمد السبيت