سهام القحطاني
”لم يكن (صلاح الدين) مثل ملوك الصليبيين. لم يتراجع عن كلمته مطلقاً مع أي شخص بغض النظر عن ديانته، و كان دائماً مجاملاً كريماً رحيماً عندما يكون منتصراً وكان قاضياً عادلاً متساهلاً”.
-المؤرخ الإنجليزي رونيسمان- نحن لا نصنع قيمة لأنفسنا من خلال تحقير الآخرين، وهذه ليست قيمة أخلاقية، بل هي قيمة إنسانية و حضارية في المقام الأول.
لاشك أن الجميع سمع ورأي ما قاله الكاتب المصري يوسف زيدان عن القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي وصفه بالحقير واتهمه بمعاداة العلم و الفكر و ارتكابه لجرائم ضد الإنسانية، موثقا هذا المسار الوصفي بأحداث وشواهد تاريخية.
في حين رد عليه آخرون مناهضون لوصفه، يفندون قاعدة التفسير التأويلية التي اعتمد عليها زيدان في تحليل أبعاد أفعال صلاح الدين، وخاصة تلك المتعلقة بخصومه الشيعة المتمثلين في الدولة الفاطمية.
ولعل السؤال هاهنا ما الذي يقصده زيدان من تشويه نموذج البطل للقائد صلاح الدين الأيوبي في هذه الفترة التي يحتاج فيها المسلمون إلى نموذج للبطل ولو كان بطلا من ورق أو خشب.؟
والأخطر من ذلك ما حمله قوله من تلميح إلى فتنة بين السنّة والشيعة كإظهار صلاح الدين الأيوبي عدوا للشيعة.
إن تحليل الحدث التاريخي يعتمد على المنطقية والتي بدورها تكتسب مصداقيتها من مدى تقبل المعلومات للتوافق مع ظرفيات المكان والزمان المخصوصين لهذا التحليل.
إنها أشبه بلعبة فكرية كلما اتقنتها كسيتها بالمعقولية اكتسبت صدقيتها، وهذا القول يقودنا إلى طبيعة القراءة التحليلية للأحداث التاريخية و التأويل النفسي والسلوكي لأصحابها.
وبذلك فتحليل الحدث التاريخي وفق إطار ظرفياته حمّال أوجه فكل واحد منا يستطيع تقديم تحليل تاريخي و نفسي و سلوكي للأحداث وأصحابها وفق رؤيته المتضمنة معطيات معقولة تتوافق مع إمكانيات تقبل ظرفيات الفترة.
وذلك التوافق لا يعني تحقق الصدقية، بل إمكانية المعقولية، ولايمكن تجنيب القصد السياسي أو الطائفي أو حتى التجاري في التأثير على مسار التحليل التاريخي للأحداث و أصحابها سواء داخل ظرفياتها أو خارجها بحجة التجاور أو التشابه، وتلك الحجة تعتمد على سحب الحدث التاريخي من ظرفياته لتسكينه ظرفيات جديدة لقصد غالبا ما يكون مرتبطا بغاية أيديولوجية أو غاية سياسية.
حدث مثلا تحليل «حرق مكتبة القاهرة في عهد صلاح الدين» قد يٌحلل من زاويتين مختلفتين بالتضاد.
وتحليل هذا الحدث كما هو موجود في القراءات التاريخية لا يظهر بصورة واحدة، فهناك من يرى أن المكتبة لم تُحرق بالمفهوم الواقعي للحرق،إنما ما تّم حرقه كانت بعض الكتب الفكرية الفاسدة التي تٌشجع على العداء الفكري بين طوائف المسلمين، وفيما عدا ذلك تم الاحتفاظ بالنصيب الأكبر من تلك الكتب في المكتبة وهذه الزاوية غالبا مرجحة من أنصار صلاح الدين.
في حين ترى قراءة أخرى أن المكتبة أحُرقت بالمعنى الواقعي بسبب عداء صلاح الدين الأيوبي للشيعة الفاطميين الذي جاء حكمه على أنقاض دولتهم، وهذه الزاوية غالبا مرجحة من معارضي صلاح الدين، ولذلك لا يمكن توثيق حقيقة أمر يختلف عليها رؤيتان.
فمؤيدو صلاح الدين يقدمون رؤية للحدث تتوافق مع تأييدهم له، ومعارضوه كذلك يقدمون قراءة تتوافق مع رؤيتهم المعارضة له.
هذا هو التاريخ « لايمكن أن تراهن على حقيقة أحادية «فثمة رؤيتين متضادتين دوما لكل حدث ولكل شخص. وبذلك فليس هناك قراءة تاريخية أحادية الصدق بل ثمة قراءات قابل للتصديق «وفق درجة منطقية المعطيات التي تٌقدمها للمتلقي.
إن قراءة أو تحليل أي حدث ينطلق في الأصل من خلال زاويتين مختلفتين، زاوية يتبناها المناصر ويسوق لها ما يمنطقها من معطيات و معقولات و مبررات شريفة ،و زاوية يتبناها المعارض و يسوق لها ما يمنطقها من معطيات و معقولات و مبررات غير شريفة.
وبذلك فإن كلا الطرفين سيحظيان بتحقيق درجة من المصداقية تروج لرؤيتهما دوما.
إضافة إلى مسألتين مهمتين؛ المسألة الأولى هي إن التقويم الأخلاقي في قراءة الأحداث التاريخية يظل «مسألة نسبية» ولا أقصد بهذا القول تجنيب القيمة الأخلاقية في الأصل إنما أقصد إن وقوع اختلاف في قراءة الدافع الأخلاقي لصاحب الحدث التاريخي يُنحى القيمة الأخلاقية كمعيار للتقويم و التقييم، لأن القيمة الأخلاقية تٌبنى على الثابت لا المختلف.
و المسألة الأخرى هي؛ أن التاريخ بدرسه التحليلي و القرائي ليس معادلا للقانون ويجب أن لا يكون كذلك، فليس من وظيفته تقديم محاكمات و مساءلات وتصنيف الأحداث التاريخية وأصحابها وفق معايير القيم؛ لأنه مرتبط بظرفيات وحسابات لا يمكن قياسها بأدوات «الحاضر» أو ظرفياته «فمن يقتل ليدافع عن نفسه ليس قاتلا»، «فالقتل ليس إثما دوما».
ثم إن ربط البطل في الذهنية العربية بالمثالية الملائكية، أو رجل الدين الصالح الذي يرقى لمرتبة الأنبياء، هو ربط لاشك يُعزز قيمة البطل لكنه لا يخلقها، والبحث عن ذلك الربط في مفهوم البطولة في التاريخ العربي هو دلالة عن «وجدانية الذهن العربي و عاطفته الفكرية» وهو أمر متجاوز عند الشعوب الأخرى، «فجورج واشنطن» الذي لقبه الهنود الحمر «بهدام المدن» الذي قتل مئات منهم يعتبر في ذاكرة التاريخ الأمريكي رمزا عظيما، ورغم جرائمه لم نسمع مثقفا أمريكيا نعته بالحقير أو وصف ما فعله بالهنود الحمر بالجرائم ضد الإنسانية.
لأن الشعوب العقلانية تُمجد نتائج أبطالها وليس أخلاقياتهم.
إن محاكمة أبطال التاريخ العربي خارج ظرفيات عصرهم أو سحبهم لمقاصد أيديولوجية هي خيانة تاريخية.
ورغم كل ما قد يحيط بأفعال صلاح الدين الأيوبي من شبهات عنصرية أو ديكتاتورية أو طائفية، سيظل صلاح الدين الأيوبي نموذجا للبطل الذي أذهل الغرب قبل العرب،و يجب أن ننظر إليه في إطار البطل وليس القديس.