د.محمد الدبيسي
في بواكير قراءاتنا في الأدب الحجازي, كنا نمرُّ باسم جعفر البيتي, الشاعر المدني, الذي لا يكاد يخلو من ذكره كتاب عن الشعر في حقبة القرن الثاني عشر. وكان يشدنا, ويستدعي ملاحظتنا؛ ما يخصه به الكاتبون من إشادة, وإشارة إلى الروح التجديدية, والشاعرية الأصيلة, عند ذلك الشاعر المُجيد. وكان الأستاذ عبد القدوس الأنصاري, من أول من أشار إلى أدب البيتي وشعره, في مقالات نشرها في مجلة المنهل عام 1357هـ, وتلاه في ذلك الأستاذ محمد علي مغربي في كتابه: (أعلام الحجاز في القرن الربع عشر الهجري وبعض القرون الماضية), ثم الدكتور عاصم حمدان في كتابه: (صفحات من تاريخ الإبداع الأدبي بالمدينة المنورة), وإلى ذلك دراسات أخرى عُنيت بأدب تلك الحقبة, ولا سيما الشعر, الذي وُصف بالإتباع والضعف والانحطاط, على نحو ما شاع في مؤلفات عديدة, تداولت هذه المقولة, وأشاعتها وكرَّستها, وأنزلتها على حقبة كاملة, دون فرز أو تحقيق دقيق.
والشاعر جعفر بن محمد البيتي, واحد من شعراء تلك الحقبة, حفظت خزائن المخطوطات, والمكتبات ولا سيما في المدينة المنورة, بنسخ من ديوانه, وبعض مؤلفاته المخطوطة. ولم تستطع إشادة الأدباء والدارسين بأدبه وشعره, وميزات ذلك الشعر وخصائصه الفنية؛ أن ترتفع به إلى شرط الباحثين وأساتذتهم في هذا الفن, لأسباب ليست موضوعية. ومن ثمَّ نُظِر إلى شعر البيتي؛ بحذر شديد, لما فيه (تصوف)..!, ولا أظن من صرف تلاميذه عن شعر البيتي وأدبه بعامة, يدرك حقيقة الشعر أو التصوف, ليظل شاعر بقامة السيد البيتي, في دائرة التناسي, وتحت دثار من غبش البصيرة, وضيق الأفق, وضعف الرؤية. وهو من بزَّ مجايليه, وتفرَّد في عصره, ووصله بالعبقرية أكثر من سبب. لما كانت عليه نشأته الأدبية وتكوينه الفكري, وقدراته الذهنية, وما تفرَّد من ذكاء وحصافة, وغزارة علم, ودأب على التحصيل والقراءة في أكثر من علم. حتى طوَّفت شهرته الآفاق, وأشاد به كل من أتى على أدب الجزيرة العربية؛ مؤرخاً, أو دارساً.
وهكذا كان أدب البيتي؛ المستلة الوضيئة, من مدونة عصرٍ تواتر الدارسون على وصفه بعصر الضعف والانحطاط. ولا ريب أن ذلك يعلي من شأن شاعرنا البيتي, ويقتضي البحث في هذه الإشكالية - بغرابتها وطرافتها- من جوانبها كافة, ويراجع المسلَّمات ويفحصها, ويجوب أحوال عصر البيتي؛ سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً, ويتتبع سيرة البيتي الشخصية, والثقافية وتكوينه المعرفي, وميراثه الأدبي شعراً ونثراً. ويميط اللثام عن ذلك الأديب الفذ, ويكشف للقارئين أدبه, في ميزان البحث العلمي ومقاييسه الأدبية. وذلك ماعمل عليه الباحث الدكتور/ سالم بن وصيل السميري, وتجشَّم عناءه, بصبر وأناة, ومنهجية دقيقة, في كتابه القيِّم: (جعفر البيتي شاعر المدينة المنورة في القرن الثاني عشر الهجري), الذي صدر حديثاً عن نادي المدينة المنورة الأدبي, وناف على ثمانمائة صفحة. وكان الكتاب في أصله دراسة علمية نال بها الباحث درجة الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1425هـ. وكشف فيه الباحث الحياة العلمية والسياسية في عصر البيتي, وجوانب من الحياة الاجتماعية, ثم ألفى إلى الشاعر: مولده, ونسبه الرفيع, ونشأته وتكوينه العلمي, وأساتذته ورحلاته. واختلف إلى شعره, فقسَّمه بحسب موضوعاته, وخصائصه الفنية, التي تناولها بالتفصيل.
وخصَّ نثر البيتي بفصل مستقل. وحقَّق في نسبة بعض كتبه إليه, وكذا تناول ذلك النثر, وأنساقه الموضوعية, وسماته الفنية.
وقد سعدت بمطالعة الكتاب, وأفدت منه. وهو في ظني مرجع أصيل في موضوعه, ظهرت فيه شخصية الباحث, ووفرة مصادره العلمية وتنوعها, وكفاءة أدواته في التحليل والاستنتاج, وسوقه الأدلة على الفرضيات والنتائج التي انتهى إليها. وكذا طول نفَسَه على مراجعة كل ما كتب عن البيتي, وعصره. ونقاشه, وموازنته بمثله مما كُتب, والخروج برأيه العلمي. ومكابدته مطالعة ذلك الإنتاج الشعري, والنثري المخطوط, ومقابلة نسخه في أصولها, وتحرير الأبيات بدقة كتابتها وتشكيلها.
وكان الفصلان الخاصان بالشعر؛ ميزاناً لذائقة الكاتب الجمالية. وفيهما وفي غيرهما من فصول الكتاب؛ كان للباحث فضل إخراج هذا الشاعر من دائرة الإهمال المتعمَّد, والنسيان العيي, وتحمُّله عناء قراءة ومراجعة جلّ ما كتب عن عصره من جوانبه كافة. ثم ما كُتب عن الشاعر نفسه, في مراجع شتى.
إن كتاب السميري هذا.. مثال على البحث الأكاديمي المعمق الرصين, الذي لم يرتض الجاهز من القضايا, أو الهامشي من الموضوعات, ولم يسلِّم بالسائد من الأحكام, والشائع من المقولات. بل تجشَّم الخوض في هذا المسلك الدقيق, واختار بثقة هذا المُرتقى الصعب, الذي ارتقى بصنيعه العلمي, وهو قمين بأن يجعل كتابه من المصادر العلمية الحديثة المهمة, في أدب الحجاز.