د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
بدأ رمضان، وبدأ معه التنافس المحموم بين القنوات التلفزيونية لعرض ما يمكن عرضه من مسلسلاتٍ تمثيليةٍ دُفعتْ فيها الأموال الطائلة؛ رغبةً في جذب المتلقين إلى مشاهدة شاشاتهم، ومن ثم إغراء المعلنين بالإعلان في قنواتهم عن منتجات معظمها رديءٌ أو مضر، لكنه بريق الإعلان الذي يُغشي عيون المغفلين. وسأتجاوز هذه النقطة لأنها ليست موضوع هذه السطور التي أتغيا من خلالها النظر في الموضوعات التي تتناولها هذه المسلسلات، والطريقة التي يتم من خلالها معالجة القضايا المطروحة فيها.
الإشكالية الكبرى التي أراها حاضرةً في هذا السياق هي أنَّ المسؤولين عن هذه المسلسلات فهموا أنَّ الفنَّ الذي يُقدِّمونه من خلال هذه المسلسلات ينبغي ألا يخرج عن اتجاهين: الأول وهو الغالب: لفت النظر إلى مشكلةٍ من مشكلاتنا المحلية الكثيرة، وتسليط الضوء على أزمةٍ من أزماتنا التي لا تنتهي، كلُّ ذلك يتمُّ بحجة أنَّ الفن يجب أن يكون مرآةً للواقع وانعكاساً مباشراً له، حتى يمكنه النفع والتأثير في المتلقين الذين يعايشون هذه المشكلات ويعيشون معها، الثاني: تهريجٌ وسخافةٌ وسماجةٌ، تتخذ من التنابز بالألقاب والسخرية من خلق الله مادةً للإضحاك، ظنَّاً منهم أنهم يُقدِّمون فنَّاً في إطار الكوميديا الهزلية!
هذا هو الواقع المؤسف للفنِّ التمثيلي في إنتاجنا المحلي، واقعٌ سوداويٌّ ومشكلاتٌ أزلية، أو تهريجٌ وسخافاتٌ بهدف الإضحاك، وهكذا ينظر الكاتبون والمنتجون والممثلون إلى الفنِّ بهذه الصورة التعيسة المتهالكة، بهذه النظرة القاصرة العقيمة، ويتعاملون معه بهذه الرؤية السقيمة الناقصة التي لا تفهم من الفنِّ سوى التحسُّر على الواقع أو الضحك عليه، ولهذا تتشابه الأعمال الفنية، وتتكرَّر موضوعاتها، وتشترك في طريقة عرضها، فلا تجد منها المميز الذي يستطيع أصحابه أن يخرجوه من هذه الدائرة الضيقة، لأنهم اعتقدوا أنَّ هذه المساحة هي المتاحة للإبداع الفني.
وليت هذا الأمر توقَّف عند هذه الأعمال التلفزيونية، بل تجاوز ذلك إلى غيرها من الأعمال الإبداعية والأجناس الأدبية، من رواياتٍ وقصصٍ ننتجها على المستوى المحلي، إذ تجد معظم هذه الأعمال مقيدةً بتناول مختلف مشكلاتنا المحلية، ومكبَّلةً بأنواع أزماتنا الاجتماعية، حتى اختفى الجمالُ وتلاشتْ المتعة، وصارتْ هذه الأعمال سوداويةً تبعث على التشاؤم، وتثير في النفوس النفور والاشمئزاز من الواقع.
لقد دأبتْ هذه الأعمال على تناول مشكلاتنا المحلية، كأزمة السكن، وقضايا المرأة، والتعصب الرياضي، وسلبيات البطالة، والخلافات الطائفية، ومشكلات السياحة الداخلية والخارجية، والفساد الإداري، وقضايا العنصرية، وزلات التعليم، والأخطاء الطبية، وغيرها من المشكلات التي بولغ في تناولها حتى تجاوزت السعوديين إلى غيرهم من الأجانب، الذين اتخذوا من هذه القضايا مادَّةً للسخرية والتندُّر، بل وسيلةَ جذبٍ واقتياتٍ واسترزاق، ضاربين بكلِّ هموم شعبهم ومشكلات أوطانهم عرض الحائط، وما ذاك إلا لأنَّ هذه الإنتاجات رسَّختْ في ذهن المشاهد العربي أنَّ واقعنا المحلي خالٍ من أيِّ إيجابيات، وأنه مجرَّد مشكلاتٍ وظلماتٍ بعضها فوق بعض، وأننا نتلذَّذ حين تذكِّرنا هذه الأعمال بمشكلاتنا وتعيّرنا بأزماتنا، وهذا ما يؤدي إليه الفهمُ العقيمُ للفن.
إنَّ أمثال هؤلاء المتطفلين على الفنِّ -من كُتَّابٍ ومنتجين وممثلين- لم يعوا أنهم بهذا التوجُّه يُغيِّبون مساحةً واسعةً من ماهية هذا الفن، ويقضون على كثيرٍ من جمالياته من متعةٍ ودهشةٍ وإثارةٍ للحسِّ والشعور بالجمال، وأغلب الظنِّ أنهم لا يدرون أنَّ الفنَّ أحياناً يكون للفنِّ فحسب، لإثارة الجمال، لتوليد اللذَّة في النفس الإنسانية، تلك اللذَّة التي لا تفنى بمجرد انتهاء المشهد، بل يبقى أثرُها خالداً مع امتداد الأزمان.
لا أدري لماذا لا تتناول هذه المسلسلات القيم العليا للحياة الإنسانية؟ ولماذا لا تتطرَّق إلى بعض المشاعر الوجدانية كالفرح والسعادة والنجاح والحب والتضحية والوفاء؟ أين معالجة تعب الإنسان في هذه الحياة وإحباطه من تشابه أيامها؟ لم لا يكون للتفاؤل والبشارة وغيرها من معاني الحياة الواسعة نصيبٌ من اهتمامها؟ لماذا تجاوزتْ هذه الأعمال كلَّ هذه الجماليات وأضحتْ مجرَّد لوائح اعتراضٍ على الواقع بعد تسويده وتشويهه؟ والسؤال الذي يختصر كلَّ هذا: لماذا نستثمر هذا النوع من الفنون في جلد ذواتنا، وإبراز أسوأ ما فيها، وتعقيد مشكلاتنا، وإظهارها على أنها أزماتٌ لا يمكن حلُّها، وكوارثُ يستحيل التعايش معها؟
إني أعي تماماً أنَّ مثل هذه الإشكالية لا يمكن أن تُحلَّ إلا من خلال وعي المسؤولين عن هذه الأعمال بماهية الفنِّ وطبيعته والغاية منه، ثم بدراسة النفس الإنسانية وما تفتقده من إحساسٍ بالجمال الذي يمكن أن يوفِّره لها هذا النوع من الفنون، ثم بإنتاج أعمالٍ تُسهِم في خلق المتعة والجمال واللذَّة في المتلقين الذين يتعطَّشون إلى مثل هذه الغايات، بعد أن سئموا الواقع الذي ظلَّتْ تُصوِّره لهم هذه المسلسلات ردحاً من الزمن.