على الجانب الآخر فإن الإرهاب العشوائي بات ظاهرة متوالدة ومتناسخة، في العقدين الأخيرين على الأقل، ومتركزًا بالدرجة الأولى في منطقة الشرق الأوسط ثم في حالات معدودة في أماكن منتقاة في دول غربية معينة.
والمقصود بالإرهاب في الحالة العشوائية ليس مجرد الأعمال العنفية والإجرامية التي هي من الكثرة والتنوع في الغرب وغرب الغرب بحيث يصعب حصرها ومتابعتها وإحصاء ضحاياها، خصوصًا أن بيع السلاح في غرب الغرب وحيازته وحمله يعد نظاميًا وتنتشر دكاكينه في جميع شوارع المدن والقري. وإنما المقصود بالإرهاب هو المصطلح الذي أطلقته قوي دولية متنفذة على الأعمال الإجرامية التي ينتمي مرتكبوها إلى ثقافة محددة وأقاليم بعينها.ولذا فإن أي حادثة تقع في الغرب تخضع لفرزٍ دقيق وتقييم إعلامي مكثف يتم بعده إشهارها كحالة إرهابية إذا اتضح الانتماء غير المرغوب لمنفذها أو منفذيها مهما تكن محدودية الأضرار والضحايا ويتدفق الإعلام المهيمن بعدها في الإدانة والاستهداف والإثارة وتوظيف واستثمار الحدث سياسيًا وثقافيًا بصورة متناهية.في حين يجري إدراجها كواقعة عنفية مجردة إذا اتضح غير ذلك مهما تكن ضخامة التدمير وكثرة الضحايا ويتم بعد ذلك تجاهلها ونسيانها باعتبارها من المهام العادية لمخافر الشرطة التي لا تستحق الانشغال السياسي والإعلامي.
ويمكن رصد وتشخيص الإرهاب العشوائي المقصود عبر النقاط التالية:
- أنه رد فعل لفعلٍ إرهابي مؤسسي متقادم أو راهن يحدث عبر احتقان طبيعي أو مستثار وموجّه. والعمليات التي تحدث في الغرب تحديدًا من قبل أفراد شرق أوسطيين تأتي مدفوعة باحتقانات متراكمة من الذاكرة الاستعمارية الدامية والأوضاع الاجتماعية والوطنية المزرية للبلدان المحكومة بنخب تعهدها المستعمر بعين رعايته أو من أحوال مجتمعات المهاجرين التي تتغذي على سياسات التهميش والفقر والعنصرية.
- أنتجت حالات الإخفاق التنموي والصراع العبثي بين ثقافة المستعمر المجلوبة والثقافة الوطنية التقليدية المتكلسة حالة من الانفصام الثقافي والضياع الفكري مما أوجد مناخًا ملائمًا لاستقطابات حادة سواء في الحقل الديني أو ما يناقضه مما سهّل انخراط الكثيرين في تيارات مشبوهة المنشأ والتوجيه. وكلما زادت الهوة بين الحكومات الوطنية وشعوبها أو بين الأقليات المتنفذة، سواءً كانت عسكرية أو غيرها، والأكثريات المحكومة مع استمرار التردي الاقتصادي والتغوّل الأمني والتزييف الثقافي زادت فرصة الوقوع في مصيدة الخلايا الإرهابية.
- يتركز الجانب الأكبر من العمليات المنعوتة بالإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وذلك لأسباب متفاوتة، منها أن هذه المنطقة تفرز أعدادًا متزايدة من المحبطين والمحتقنين المتأدلجين ولكون بعض دول المنطقة تتميز إما بالهشاشة السياسية أو بارتباكات أمنية تسمح بخلق حواضن تستوعب هؤلاء المتأدلجين وتوفر لهم السلاح والخدمات اللوجستية.كما أن حالات العداء السياسي والصراع العقدي بين كثير من دول المنطقة تسهم في تيسير مثل هذه العمليات وربما دعمها بطرق مباشرة أو غير مباشرة.إضافة إلى أن تنفيذ مثل هذه العمليات في دول وساحات المنطقة هو أخف وقعًا وأقل إثارة للإعلام الدولي وبالتالي أقل كلفة وعبئًا على منفذيها ما لم تكن العمليات الإرهابية موجهة لأهداف غربية في المنطقة.
- ترافق نشوء الظاهرة الإرهابية وتوسعها وتبلورها عبر مسميات وعناوين إيديولوجية محددة مع عودة التدخل الدولي بزخمٍ متزايد في منطقة الشرق الأوسط. ومما زاد من غموض هوية هذا الإرهاب واحتمالات وجود مدخلات تأثير مادية وتنظيمية دولية على جماعاته هو احتكار القوي الدولية لقيادة مواجهة هذا الإرهاب عبر واجهات متعددة وتفرّدها بالخطاب السياسي والإعلامي الموجه تجاه هذه الظاهرة ومفرداتها تعريفًا وتشخيصًا وفرزًا. وإذا كانت أطراف ثقافية وسياسية في المنطقة تتهم قوي أجنبية بتمويل أو تجييش هذه الجماعات الإرهابية فإن أصواتًا غربية عديدة تتحدث هي الأخرى عن صلة هذه الجماعات وارتباطها بقوي دولية متنفذة لعل أبرزها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دي فيلبان والثرثرات المطولة للكاتب الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي حول فضح دور الغرب في التآمر على الشعوب المغلوبة، فضلاً عن هيلين توماس الصحافية الأمريكية المعمّرة ذات الأصول العربية التي تم إبعادها عن البيت الأبيض بعد إفاداتها الصريحة.
- تتفاوت المعايير والجهود المبذولة لمواجهة هذا الإرهاب الموصوف، ففي حين تجري عمليات مواجهة واستهداف موضعية لمواقع وجود وتمركز الخلايا الإرهابية لم تثمر عن استئصاله على مدي سنوات، فإن هذه القوي الدولية ذاتها، سواءً من غرب الغرب أو شرق الغرب تقوم بالتعاون والدعم القوي لأنظمة سياسية طاغية في المنطقة بهدف مواجهة واستئصال الجماعات الإرهابية العشوائية، في حين أن هذه الأنظمة الطاغية تمارس إرهابًا كاسحًا على شعوبها كما أن بعض هذه الأنظمة تستعين وتستقوي بميليشيات غير نظامية تمارس إرهابًا قد يفوق إرهاب الجماعات المستهدفة وهذا ما يفاقم حالة الاستقطاب والاحتقان ويخلط الأوراق في ساحةٍ هي أحوج ما تكون إلى الحسم لكي يتم إنقاذ التجمعات السكانية الكبيرة الواقعة ضحية إرهابين متناظرين يختلفان في المنشأ والهدف ويتشابهان في النتائج.
- عبدالرحمن الصالح