د. محمد عبدالله العوين
ارتكبت «داعش» جريمة مروعة جديدة في أقباط مصر راح ضحيتها خمسة وثلاثون قتيلاً وثمانية وعشرون مصاباً.
كان الضحايا مسافرين في رحلة دينية في ثلاث حافلات إلى دير الأنبا صموئيل في الصحراء الغربية بالمنيا واصطادهم الإرهابيون في طريق منعزل في صحراء شبه جزيرة سيناء.
العدد الأكبر من القتلى كانوا أطفالاً لم ينج منهم إلا ثلاثة، وكان المجرمون القتلة يسألون كل واحد من ركاب الحافلات عن دينه، ثم يطلقون الرصاص عليهم عشوائياً.
لم يُستهدف الأقباط في مصر؟ ليست هذه المرة الأولى؛ فقبل ثلاثة أشهر تقريباً تم تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية، في يوم يقدسه النصارى يعرف بـ»أحد السعف» وقد وقت الإرهابيون التفجير في ذلك اليوم ليسقط أكبر عدد من القتلى.
كنائس كثيرة استهدفت، ومسيحيون نحروا؛ ليس في مصر فحسب؛ بل في العراق وسوريا، وليس النصارى فحسب؛ بل تعرض للإيذاء والتهجير وسرقة الأموال ونهب المنازل واستيطانها مئات المسيحيين والأزيديين والصابئة وغيرهم من أصحاب الديانات والملل والنحل.
لقد تم توسيع نطاق الذبح وتفجير وهدم الكنائس وأماكن العبادات إلى خارج الأرض التي تولد فيها التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق، ووصلت جرائم «داعش» إلى ليبيا ومصر بعض بلدان أفريقيا؛ فما الغاية التي يريد أن يصل إليها من وراء تأسيس التنظيم الإرهابي، لا الإرهابيون أنفسهم فحسب؟!.
من ينكر أن الفكر الإرهابي التكفيري الذي يستهدف الناس في عقائدهم ومذاهبهم توجه فردي واقتناع ذاتي بأفكار التكفير، وأنه ليس وراء القناعات الفردية دول وأجهزة استخبارات كبرى تضع لهم الخطط وترسم الإستراتيجيات وتمدهم بالمال وبالسلاح؛ فهو مغيب عن الحقيقة، ولا ينظر إلى الأحداث إلا من زاوية واحدة ضيقة.
لقد تكشفت أهداف التنظيم الآن بعد أن كان محيرا في بدايات ظهوره على الساحة السورية والعراقية. لكن انتشاره السريع وتمدده في القارة الإفريقية، سواء باسمه أو باسم «بوكو حرام» أو بأسماء تنظيمات أخرى فرعية ترجع إليه وتلتقي معه في الأهداف وتتبادل معه المعلومات والمقاتلين بطريقة أقرب إلى عمل دول كبرى تنقل مقاتليها وأسلحتهم وتستوطن في الولايات والنواحي دون أن يعترضهم معترض أو يصدهم جيش آخر من دول العالم الكبرى التي ترى بالعين المجردة ما يحدث وتتفرج على مشاهدهم السينمائية لإحراق الطيار الأردني أو نحر العمال المصريين على شواطئ ليبيا دون أن تحرك ساكناً!.
لقد تم بناء وتكوين التنظيم الإرهابي على مقولات فرقة الخوارج، وجرت إعادة تدوير لمقولات وآراء متشددة تقتص اقتصاصاً من سياقاتها، وعززت بتفسيرات متجنية للنصوص تخدم الغاية التي يسعى لها التنظيم؛ وهي «الهدم» أو «الفوضى» أو «إشعال الفتن».
وهذا ما تحقق؛ فقد اشتعلت الفوضى في المنطقة، وابتدأ بركان الاحتقان المتبادل يتفجر بين الطوائف والديانات والقبائل والأقاليم؛ بل بين الدول المتجاورة ذاتها.
لقد أصبحت ليبيا ولايات متناحرة، تضرب كل ولاية -وهو الاسم الذي تصدره داعش للعالم رغبة في مزيد من التمزيق- الولاية الأخرى، وتفرقت القبائل، وتعادى الناس الذين كانوا قبل فتنة ما سمي بالربيع العربي إخوة وأصدقاء ومتعايشين.
وهكذا يراد بمصر.. يراد لها بعد أن فشلت تجربة الفوضى الأولى أن تدخل في نفق مظلم من الاحتراب بين المسلمين والأقباط، بمعنى أن تكون سوريا أو ليبيا أو العراق أو اليمن ثانية.
وأمام انكشاف المخطط الدولي الذي يهدف إلى تقسيم المنطقة وتسليمها غنيمة لإيران وإسرائيل والمستعمرين الجدد - كما سلم العراق وسوريا ولبنان إلى إيران- ليس بد من أن يصحو العرب والمسلمون على ما يراد بهم، فالخطر لا يستهدف دولة بعينها؛ بل يستهدف الجميع، ومن يظن أنه ناج أو مستثنى فهو واهم. قصة الأندلس تتكرر -مع الأسف - بصياغة أكثر دموية وفحشاً وإذلالاً.