د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يعجب المرء لحال أمة تجمعها كل العوامل والمصالح المشتركة وتغرق بهذا الشكل المأساوي في التمزق والصراع الطائفي. كانت الشعوب الأخرى تحسد الدول العربية لتجانسها اللغوي والتاريخي ولمصالحها السياسية والاقتصادية والجغرافية المشتركة، إلا أنها اليوم تسخر من حالها وتحتاط من أن يصلها عنفها المعولم. وضع الأمة تجاوز إثارة الاستغراب لاستحضار الذهول والاستهجان، فهي تكاد لا ترى إلا ما يفرقها، وما يجمعها اليوم هو العنف ولا شيء آخر.
ما يعقِّد الصراعات في منطقتنا اليوم إلى حد سريالي غير معقول أنها بنيت على اختلافات دينية غيبية لا يمكن التحقق منها علمياً أو عملياً، ويستند بعضها إلى نصوص تاريخية تقدسها دول وتعدُّها أخرى نصوصاً ميثولوجية لا أصل لها. فلا سبيل واقعياً لطرح حلول لها. والمحزن أن هذه النصوص التي لا يمكن القطع بصحتها تحولت لصراعات سياسية حقيقية قد يستحيل احتواؤها فيما بعد، لأن هذه الحركات التي وضعت على طريق الجهاد لنصرة الله في مرحلة ما لا تستطيع هي نفسها التحقق من استكمال مهماتها وأهدافها الإلهية، لأنّها كما تدعي أهداف ربانية تتجاوز الواقع الدنيوي. تحققت لبعض هذه الحركات الغلبة الجهادية كما حصل في أفغانستان فدخلت في جدل فيما بينها حول الأساليب الأنجع لتحويل هذه الأهداف إلى واقع سياسي واقتصادي، فاشتعل الاقتتال فيما بينها حول النفوذ والمال. بعض قادة الجهاد اكتشف أن الجهاد للآخرة وسيلة ناجعة للثراء السريع في الدنيا فتحولوا لأدوات قتل وتخريب مدفوعة الثمن بتحالفات مع مختلف الاستخبارات العالمية عبر عملاء أبالسة في هيئة مجاهدين. والأدهى أن بعض الدول الكبرى في المنطقة اتخذت هذه الحركات أدوات لفرض سيطرتها على دول مجاورة، جهاد هذه المرة للانتقام التاريخي والسيطرة المذهبية. فدخلنا لمرحلة تطاحن الجهادات.
هذا الفكر الذي كان حاجة للأنظمة كسلاح ناجع أوحد ضد الفكر الإلحادي الشيوعي في مرحلة ما، تحول أداة لتدمير الأمة، فتكاثر كالفطريات بشكل لا يمكن السيطرة عليه، ولم تستطع الأنظمة أن تعيد الجني الجهادي للزجاجة التي أخرجته منها. فالفكر الجهادي الذي هو في طبيعته فكر غيبي بطولي أسطوري أوحى لتنظيمات المسلحة بشكل بدائي بأنها هي الفئة المنتصرة بأية حال، وأنها هازمة العالم لا محالة حتى ولو هزمت فعلياً وواقعياً. فأسوأ هزيمة هي تلك التي تؤدي للموت، وبالنسبة لأفراد هذه الفئة فالموت مرحلة انتقالية لعالم آخر جميل وانتصار أبدي ينفردون به بنعيم مستديم خالٍ من جميع الخصومات والخصوم، أما بالنسبة لقادتها فالأمر مختلف فهي لا تتنازل عن نصيبها من التنعم بالدنيا لأنّها تدرك الأمور بشكل أعمق وهي ليست متأكدة من أن الله يكافئ القتلة في الآخرة، فإيمانها بالله إيمان براجماتي مصلحي.
المسلمون في سابق عهدهم الجهادي كانوا يدركون أهدافهم الجهادية بوضوح، وكانوا يضعون حدوداً وتصورات دنيوية سياسية معقولة قابلة للتحقيق لنزاعاتهم مع غيرهم يتوقف بعدها الجهاد ويبدأ البناء. وكانوا أيضاً يراعون حسن الجوار والتعامل بتسامح مثالي مع الشعوب التي سيطروا عليها أو تلك التي جاورتهم. وكانوا على قلب رجل واحد ولم يمكن لأي استخبارات خارجية أن تخترقهم. اليوم تغير الحال وأصبح الجهاد للقتل والإيذاء لأناس في أغلبيتهم معاهدون وأبرياء، وتحول لأسلوب حياة.
الحرب ضد الإرهاب، وهنا أتكلم عن الإرهاب المبني على تصورات إسلامية محرفة، هي في جوهرها حرب فكرية. وتجفيف المنابع الفكرية للفكر الجهادي الإرهابي أهم من تجفيف منابع قوته الأخرى. وهي بلا شك اليوم صعبة جداً لتطوره وتعقده وتوسعه. فمن يخططون لهذا الفكر ويعقدونه أبالسة متمكنون من الفكر والتاريخ، مظهرهم مظهر ملائكة غيورين على الدين، ومخبرهم مخبر ساديين منحرفين، بل إن بعضهم وصل لمرحلة الإمامة والقدسية ودان له أتباعه بالولاء المطلق.
وما يزيد الطين بلة هي الشعوب المهمشة الفقيرة فاقدة الأمل التي تشكل بيئة خصبة جداً لانتشار الخرافات والنبوءات الدينية التي تعدها بعالم آخر بديل. وقد قال رسول الله - عليه أفضل الصلاة والسلام -: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».. والمقصود هنا كما يبدو ليس المؤمن القوي بدنياً أو مالياً بل المؤمن القوي عقلياً وإيمانيا. فإبليس يتوسل للبشر في أعز الأشياء بالنسبة لهم وفي أقرب الأمور لهم. وهو لا يغويهم بهيئة شيطانية واضحة بل يتوسل لهم بهيئة إيمانية تسهل خداعهم وقد يأتيهم على شكل داعية أو زعيم جهادي يسول لهم قتل الأحياء إحياءً للأموات.
ما نحتاجه اليوم هو إغلاق الأبواب أمام إبليس بإعمال العقل والمنطق، والتأكيد على كرامة الإِنسان في حياته على الأرض دون التدخل في مصيره عند ربه، فإلى الله الإياب واليه وحده الحساب.