د.فوزية أبو خالد
أستحي من الحق في السلام أمام ضراوة الحرب، فليست الحرب إلا الامتحان الأعظم للإنسان وللبشرية جمعاء على مر العصور للنضال على حلم بسيط اسمه السلام.
فكيف بأولئك المرابطين منا بقامات فارعة وأرواح فارهة على جبهة الحد الجنوبي من أجل حلم السلام.
أستحي من العيون الساهرة والأكف الخشنة والأرواح المرهفة الواقفة على خطوط النار وفي وجه الموت بصدور رحبة، ومن أشواقها المستعرة توقا للحظة نصر وبارقة سلااااام.
أستحي من أطفال أولئك الأبطال المرابطين على الجبهة على موعد مع شرف الشهادة أو كتابة عمر جديد، أستحي من خواتم الخطبة وحلاوة الملكة وصناديق المهر وزجاجات العطر ومباخر الدخون وفساتين الفرح ودعوة المعازيم ومشالح الزفة وزغاريد الأمهات ودقات القلوب المعلقة على حبال الانتظار لأعراس الصبايا والشباب المؤجلة لريثما تضع الحرب أوزارها وينجلي فجر السلام..
أستحي من مجالس الآباء في مدارس غاب عن تلاميذها آباؤهم ليحضروا على الجبهة، ومن شهادات نجاح حملها الصغار إلى بيوتهم فلم يكن في استقبالهم آباء يحتضنونهم ويحملون معهم بعضا من عبء الفرح و خفة الفخر ويأخذونهم لمتجر الألعاب.
أستحي من رُضَّع حَبَوا وأطفال مشوا ولم يروا نشوة تحركاتهم الصغيرة في عيون آبائهم.
أستحي من نساء تحولن عن طيب خاطر وقوة شكيمة إلى سيدات أشاوس في غياب الأزواج والآباء والإخوان والأبناء، ولا يعبأ المجتمع بملاحظة التحولات التي كتبتها الحرب على وظائفهن القديمة، وقلما يلاحظ أدوار البطولة التي يضطلعن بها بجدارة.
أستحي من نوافذ بيوتهم المغلقة على الجراح المفتوحة على الانتظار.
أستحي من تخيل من خلف جدران بيوتهم لطرقاتهم على الأبواب كلما تضرجت نهاية النهار بصخب الشفق وغموض الغروب، وكلما لفح الهواء أضلع الصدر ولمس خشب الباب وخزامى التصبر.
أستحي من تبادلهم الحنين الحميم الفردي والأسري وأنفاس القبلات عبر الوسائل الإلكترونية الفضاحة تانجو وإيمو ويوتيوب وواتساب وما إليه من أسلاك شائكة تشب «الضو» في ثياب العشاق أمام الملأ دون أن تطفئ شرارة واحدة من نار الفراق وحرائق الوله.
أستحي ممن لا يعلمون.. هل يتأهبون للعيد بثياب متوردة أو بكفن كالح.
فهل لا تستحي منهم الشاشات في الشهر الفضيل في رمضان ناهيك عن بقية أشهر السنة، وهي تعرض الغثاثة والبذاءات المغلفة والابتذال المتبجح مثل (رامز وسواها من مسلسلات الاستفزاز والبشاعة) في هدر رخيص لأموال ليست لمن يهدرونها، وفي استخفاف مقزز بكرامة المواطن وبحرمة ضحايا الحروب وبتضحيات الواقفين بألق وقلق على الجبهات ومستقبل بلاد بأكملها وجوارها على أكفهم.
هل لا تستحي من بطولات المرابطين بشهامة من يهب الحياة بموته تلك الموائد الممدودة في طول وعرض البلاد بما (ملغ وعاب وفاض، ولا أقول بما لذا وطاب) في الوقت الذي تخلو موائد أسرهم البسيطة من أهم عنصر من عناصر موائد رمضان وهو عنصر «لم الشمل مع الأحباب».
هل لا نستحي ونحن نعيش حياتين متوازيتين متجاورتين كل تجري في مجرى مختلف عن المجرى الآخر... مجرى ينعم بشظف الحياة ويواجه الموت في كل لحظة دفاعا عن استقرار وطن، وذودا عن الحق في أن ننعم جميعا بالسلام، ومجرى يرتع في الترف لا يدفع ضريبة لقيمة الحياة ولا لمعنى الوطنية، وكأننا لسنا مجتمعا واحدا وبلادا تتمتع بالوحدة الوطنية من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها وعلينا جميعا أعني جميعا أياً كانت مواقعنا على أرض الوطن أن نتداعى بالسهر والحمى، أو على الأقل نتآزر بالفكر والوجدان في ثقافة تحترم وجود فداء بأرواح حرة على جبهة حرب من أجل مطلب حياة كريمة تثمن السلام. فليس المفروض أن تكون جيزان وحدها في الحرب ولا نجران وحدها في الحرب، بل أن اللحمة الوطنية وتحقيق العدل والسلام وإيقاف الحرب بأسرع وقت بما يحقن ضخ الدماء وضخ الأموال يقتضي بالضرورة أن نكون كلنا جيزان وكلنا نجران وكلنا الحد الجنوبي عقلا وضميرا وقولااا وفعلاااا.
وأخيراً، والله العظيم أنني أستحي من نفسي وأنا أكتب هذا الكلام القليل المتقشف في حق من يهبوننا ومن يهبون البلاد أرواحهم في سخاء باذخ الحق في الحياة!.